إن منشأ كل المشاكل الكبرى، ومنشأ كل المفاسد وكل المظالم التي تعاني منها أمتنا الإسلامية، ويعاني منها المجتمع البشري بكله، هو الانحراف عن رسالة الله تعالى، وتعاليمه، وهديه ونوره، وعدم الاقتداء والتأسي برسله وأنبيائه “صلوات الله وسلامه عليهم”، وهذه الحقيقة المهمة يجب أن نستوعبها جيداً، وأن نؤمن بها، وأن ننطلق على أساسها في توجهنا نحو الحلول للمشاكل التي تعاني منها أمتنا الإسلامية وبقية المجتمعات البشرية، وهذه المسألة تعود بنا إلى حقائق مهمة سعى الظلاميون المضلون من أتباع الشيطان، والجاهليون والمبطلون إلى إزاحتها عن الذهنية العامة، وعن المنطلقات التي يعتمد عليها البشر في نظام حياتهم، وأهم وأكبر هذه الحقائق، هو: الإيمان بالله “سبحانه وتعالى” بشكلٍ صحيحٍ وواعٍ وفق المفهوم الذي بلغه الأنبياء والرسل، وتحركوا على أساسه، الإيمان الذي ثمرته الطاعة لله تعالى، ونظم شؤون هذه الحياة، والمسيرة العملية للإنسان، وفق هديه وتعليماته القيمة والمباركة، الإيمان الذي يحرر الإنسان من العبودية للطاغوت، ومن كل أشكال الاستعباد والاستغلال، ويصله بالعبودية لله رب العالمين، والإله الحق المبين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[النحل: الآية36].
إن الإيمان بالله “سبحانه وتعالى” لا يقتصر على مجرد الإقرار بأنه الخالق الرازق، والمحيي المميت، وأنه الصمد الذي نلجأ إليه عند الشدائد والكرب، ليغيثنا وينقذنا، هذا جانبٌ من جوانب الإيمان؛ بل يجب الإيمان بهدايته “سبحانه وتعالى” ومنهجه الحق، باعتبار ذلك من مصاديق الإيمان بأنه ربنا وإلهنا الذي له حق الأمر والنهي فينا، والتشريع والطاعة علينا، وهو سبحانه المعني بأمرنا، كما أن مسيرة حياتنا والهدف من وجودنا مرتبطٌ بتدبيره “سبحانه وتعالى”، فهو لم يخلقنا عبثا، ولم يتركنا سدى، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون: 115-116]، ولذلك فالإيمان بالله “سبحانه وتعالى” أساسٌ لمنظومةٍ من المبادئ والقيم والأخلاق والتعليمات التي أمرنا الله “سبحانه وتعالى” بها؛ لتستقيم بها حياتنا، ويصلح بها واقعنا، وأي مخالفةٍ لها، ينتج عنها خللٌ في واقع الحياة نفسها، وتأثيرٌ سلبيٌ على الإنسان في نفسه وفي حياته، وفي محيطه وواقعه، وكما أن الله “سبحانه وتعالى” يجازي الإنسان وفقاً لهذا الأساس، فالإيمان والاستقامة والعمل الصالح، والالتزام بتوجيهات الله تعالى صلةٌ برحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، والانحراف والإساءة والعصيان سببٌ لخسارة الإنسان، وللعقوبة والعذاب، والعاقبة والجزاء الأوفى في مسيرة الإيمان هي الجنة والنعيم الأبدي في الآخرة، كما أن عاقبة الذين أساءوا السوأى والعقوبة الكبرى وهي جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[الجاثية: الآية22]، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت : 46]، والله “سبحانه وتعالى” قد أتم حجته على عباده برسله وأنبيائه، كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء: الآية165].
إن رسالة الله تعالى بكل ما تضمنته من هداية للناس هي من منطلق رحمته “سبحانه وتعالى” بعباده، ومن حكمته، وبعلمه، وهي منهجٌ للحياة، فكما أنه “سبحانه وتعالى” خلقهم، وهيأ لهم متطلبات الحياة، وأصبغ عليهم نعمه المادية، وهيأ لهم الظروف الملائمة لوجودهم في هذه الأرض، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فهو -أيضًا- قد قدم لهم المنهج القويم الحكيم، الذي به تستقيم حياتهم، وهداهم إلى الصراط المستقيم الذي يصل بهم إلى أرقى وأسمى الغايات في الدنيا والآخرة، وهي الحقيقة والرشد، وبها الصلاح والفلاح، ولن يستطيع البشر إنتاج بديلٍ عنها أقوم منها ولا مماثل لها، وما يقدمونه كبديل، حتى لو كان بحسن نية، هو قاصرٌ بقصورهم، وبجهلهم، وبحدود معرفتهم وخبرتهم، والفارق هائلٌ جداً بينه وبين ما يقدمه الله من رحمته وحكمته وعلمه “سبحانه وتعالى”.
ومع ذلك فإن أغلب ما يقدم من البدائل مصدره الطاغوت الظالم المستكبر، ومبنيٌ على ما يحقق له أهدافه السيئة، القائمة على أساس الاستغلال السيء، والاستعباد الظالم للمجتمعات البشرية، ويوضح القرآن الكريم الفارق بين الأمرين، قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: الآية257]، كما أن الرسل والأنبياء هم النماذج، الرواد العظماء، وهم صفوة الله في عباده، والذين وصلوا أسمى وأعلى مراتب الكمال الإنساني رشدًا، وبصيرةً، ورحمةً، وحكمةً، وأخلاقًا، وصلاحًا، وزكاءً، ونبلًا، فهم الأجدر بقيادة المجتمع البشري، وأن يكونوا هم القدوة والأسوة الذين يقتدي بهم الناس ويتبعونهم.
ولذلك فلا مبرر أبدًا للكافرين برسالة الله تعالى ورسله، ولا للمعرضين، ولا للمنحرفين، بل إن النتيجة لذلك كله هي الخسارة الكبيرة في الدنيا والآخرة، وقد قدَّم الله لنا في القرآن الكريم الشواهد على ذلك في قصص بعض الأنبياء “عليهم السلام” وأقوامهم، كقوم نبي الله نوح “عليه السلام”، وعادٍ قوم نبي الله هود “عليه السلام”، وثمود قوم نبي الله صالح “عليه السلام”، وقوم لوطٍ وقوم شعيب “عليهما السلام”، وغيرهم ممن كذبوا برسالة الله وكفروا برسله، وكيف كانت خسارتهم وهلاكهم، كما قدم الشواهد على حالة الانحراف والتحريف والإيمان ببعضٍ والكفر ببعض، مع الانتماء- في نفس الوقت- إلى الرسالة الإلهية، فيما عرضه لنا في القرآن الكريم عن اليهود والنصارى في تاريخهم الطويل الممتد، وفي حاضرهم ومستقبلهم.
فأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وفي الفترة الزمنية الطويلة، الممتدة ما بين بعثة نبي الله عيسى “عليه السلام”، إلى بعثة خاتم الأنبياء رسول الله محمد “صلى الله عليه وعلى آله”، تعاظم مع الزمن الانحراف فيهم على مستوى الالتزام والعمل عن رسالة الله تعالى، في مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، وتعاليمها، ثم مع ذلك تعاظم تحريفهم على المستوى الفكري والثقافي، وفيما يقدمونه باسم الكتب الإلهية وباسم الأنبياء، ويحسبونه على الله تعالى؛ لشرعنة الانحراف العملي، وللترويج للباطل، فتورطوا في جرائم رهيبة، وفي مقدمتها افتراء الكذب على الله تعالى، ولبس الحق بالباطل، والكتمان للحق، والتحريف لكلمات الله تعالى عن مواضعها، قال الله تعالى في القرآن الكريم مبيناً لحالهم ذلك: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: من الآية75]، وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا}[النساء: الآية50]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: الآية78].
ولذلك فقد اندمجوا مع الطاغوت، وأصبحوا جزءًا من الواقع الجاهلي الذي طغت فيه الأهواء والمفاسد والرذائل والمظالم؛ أما ما بقي من الشعائر الدينية ونحوها فقد كانت مجرد طقوسٍ مجردةٍ من أثرها في الواقع، بعد تضييع الرسالة الإلهية كمنهجٍ للحياة، فكان البديل هو الجاهلية التي طغت بظلمها وظلامها، وأصبح الواقع البشري مأساويًا وكارثًا، والخطورة تزداد يوماً بعد يوم، وتهدد مستقبل الإنسانية التي اقتربت مسيرة حياتها على الأرض من النهاية؛ لاقتراب الساعة وأزوف القيامة، فأتت رحمة الله “سبحانه وتعالى” لإنقاذ وخلاص البشر بخاتم أنبيائه رسول الله محمد “صلوات الله عليه وعلى آله”.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي