أما جرائم التعذيب التي كانوا يمارسونها بحق أبناء الأمة فهي هائلة ومرعبة ووحشية إلى حدٍ كبير، فجرائم السَّمْل للعيون، يسمُلون الأعين، هذا فعلوه بحق الآلاف من المسلمين، كانوا يمارسون بحقهم هذا النوع من التعذيب الذي يصيبهم بالعمى، جرائم التعذيب بقطع الأيدي أو قطع الأرجل، وهذا فعلوه بحق الآلاف من المسلمين ظلمًا وعدوانًا.
أنواع الجرائم الأخرى التي تحكيها كتب التاريخ بالتفصيل وهي: إلى درجة رهيبة جدًّا من التوحش، والإجرام، المتنافي تمامًا مع قيم الإسلام، وأخلاقه، ومبادئه، وتعاليمه، والمتنافي حتى مع الفطرة الإنسانية.
الاستئثار بالفيء ونهب المال العام، والتوزيع له فيما بينهم، بملايين الدراهم والدنانير الذهبية والفضية، وحرمان المجتمع الإسلامي الذي انتشر فيه البؤس، والفقر، والحرمان، والمعاناة الشديدة، فكانوا ينهبونه ويوزعونه فيما بينهم، ويستأثرون به، ثم من خلاله أيضًا يقومون بشراء الذمم، وكسب الأنصار الذين يقفون في صفهم؛ ليمكنوهم من السيطرة على الأمة، ومن الظلم للأمة، والتعذيب للأمة، وأصَّلُوا مدرسةً للطغيان، ورثها عنهم الطغاة من أبناء الأمة فيما بعد ذلك، فحذوا حذوهم، وسلكوا مسلكهم، واتجهوا على نفس ما كانوا عليه من ممارسة ظالمة بحق الأمة.
ولذلك في مقابل ذلك الطغيان، والظلم، والجور، الاستهداف للأمة، في دينها، وقيمها، وأخلاقها، ودنياها، كانت نهضة الإمام زيد "عَلَيهِ السَّلَامُ" ضرورةً دينية؛ عبَّر عنها بقوله: (لا يَدَعُنِي كِتَابُ اللّهِ أنْ أسكُت، كيفَ أسكُت؟ وقد خُولِفَ كِتَابُ اللهِ)، لم يعد للقرآن في مبادئه، في تعاليمه، فيما فيه من توجيهات الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، أي قيمة في واقع هذه الأمة التي هي تنتمي للإسلام، ويُفترَض أن تبنى مسيرة حياتها على أساسٍ من تعليمات اللّٰه، وتوجيهات اللّٰه، "جَلَّ شَأنُهُ" على أساسٍ من مبادئ الإسلام وقيمه، فكان لابدَّ من تحركه كضرورة دينية، وأيضًا كمصلحة حقيقية للأمة، من أجل إنقاذها؛ لأن السكوت والجمود والقعود لا يمكن أن يغير واقع الأمة، ولا أن ينقذها مما تعانيه من ذلك الظلم، ومن ذلك الطغيان.
وكان في نهضته عنوانان مهمان جدًّا، هما: البصيرة والجهاد، فكان ينادي: (عِبَادَ اللّٰهِ البَصِيرَةَ البَصِيرَة، ثُمَّ الجِهَاد)، وهذا من أحوج ما تحتاج إليه الأمة في مواجهة الطغاة والطغيان، وفي العمل على تغيير واقعها. تحتاج الأمة إلى البصيرة، إلى الوعي، إلى الهداية، إلى أن يكون لديها فهم صحيح، ومعرفة صحيحة. البصيرة تجاه الواقع، البصيرة تجاه الأعداء، البصيرة تجاه المسؤولية، البصيرة في الموقف، البصيرة في التعامل مع الأعداء، فيما تحتاج إليه الأمة، فيما ينبغي أن تتحرك به. تحتاج في كل ذلك إلى البصيرة، البصيرة في دينها، في الفهم الصحيح، لدينها ومبادئها وقيمها.
الأمة بحاجة إلى البصيرة، والقرآن الكريم من أهم ما يقدمه: أنه يقدم البصيرة؛ لأنه نور، {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}[الأنعام: 104]، والجهاد؛ الوعي بالمسؤولية في التحرك في سبيل اللّٰه، "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والجهاد في سبيل اللّٰه، "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بفهم صحيح لهذه الفريضة المقدسة العظيمة، وما تعنيه للأمة، وكيف هو التحرك الصحيح في إطارها، وباستعدادٍ للتضحية، وكان الإمام زيد "عَلَيهِ السَّلَامُ" على استعدادٍ تامّ للتضحية في سبيل اللّٰه، فهو باع نفسه من اللّٰه "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وكان يرى ويدرك، وعبَّر عن ذلك في كثيرٍ من المقامات والمناسبات، ونقلت كتب التاريخ بعضًا مما قاله في ذلك، أنه لا مجال إلا التحرك، أما التقصير، أما التفريط فعواقبه خطيرة جدًّا؛ فيه هلاك الأمة، فيه التفريط على مستوى الالتزام الإيماني والديني؛ أن يُخِلَّ الإنسان بمسؤوليته الدينية والإيمانية، وإضافة إلى ذلك فيه تمكين الطغاة والظالمين، تمكينهم من الاستمرار في ممارساتهم الظالمة والإجرامية.
وفعلًا كان لتحركه أثر كبير جدًّا، مع أنه عانى من تخاذل الكثير من الناس، حتى مِن تخاذل أولئك الذين كانوا قد استعدُّوا لنصرته، وأن يقفوا معه، وأن يتحركوا معه، فتخاذلوا عنه، وقال كلمته الشهيرة وهو يخاطب (نصر ابن خزيمة) أحد أصحابه والقادة معه: (أَتَرَى أَهْلَ الكُوفَةِ قَد فَعَلُوهَا حُسَينِيَّة)، يعني خذلوه، مثلما خذلوا جده الحسين "عَلَيهِ السَّلَامُ". فهو بالرغم من كل ذلك، كان يرى ضرورة التحرك حتى لو تخاذل الناس، هو الذي قال كلامه الشهير والعظيم والمهم: (لَو لَم يَخرُجْ مَعِي إلَّا ابْنِي يَحيَى لَقَاتَلتُهُم)، كان يمتلك هذا المستوى من العزم، من اليقين، من الإرادة، من التوجه الجاد في أداء واجبه، في النهوض بمسؤوليته، في أن يقول كلمة الحق، في أن يبذل جهده أمام ذلك الواقع المظلم، الممتلئ بالظلم والطغيان والفساد والمنكر، كان لا يرى مجالًا للاستمرار في ذلك، وهو من سمع في مجلس هشام أحد اليهود يسبُّ رسول اللّٰه "صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ"، وعندما انتهره، وزجره، وغضب عليه، وتهدده، غضب منه هشام الملك الأموي: "لا تؤذِ جليسنا يا زيد"، يقول له هكذا، هو من يخاطب الإمام زيد أن يسكت، يخاطب الإمام زيدًا أن يسكت عن أن يتوعَّد ذلك اليهودي وأن يزجره، بينما كان يسبُّ رسول اللّٰه "صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ".
فأمام ذلك الواقع المظلم كان يقول: (لَو لَم يَخرُجْ مَعِي إلَّا ابْنِي يَحيَى لَقَاتَلتُهُم)، وخرج دون أي تردد، وباستعداد كامل للتضحية، وهو يحذر الأمة من العواقب السيئة التي لتكبيل الخوف للأمة، عندما تُكَبَّل الأمة بالخوف والذل، فيخضعها ذلك للظلم والطغاة، فتكون النتيجة خطيرة جدًّا؛ لأن الأمة تعاني، وتخسر، وفي نفس الوقت تقدم تضحيات بدون نتيجة، بدون أن يكون ذلك في إطار قيامها وسعيها لإنقاذ نفسها، بل في حالة من الخضوع والاستسلام، وهي حالة الخطيرة جدًّا.
كان يقول: (مَا كَرِهَ قَومٌ قَطُّ حَرَّ السُّيُوفِ إلَّا ذَلُّوا)، فحالة الذلة والتهيُّب من المواجهة؛ عندما لا يبقى لدى الأمة استعداد للتضحية وإدراك لقيمة وأهمية التضحية في إطار النهوض بالمسؤولية وأداء الواجب. فهو كسر حاجز الذل والخوف، وأعطى للحق دفعًا، وللإسلام المحمديّ الأصيل استمراريةً، ومن بعده- بعد استشهاده- كانت نهضة ابنه يحيى بن زيد "عَلَيهِما السَّلَامُ"، ومن بعد ذلك بدأت التغيرات الكبيرة في الساحة الإسلامية، بدءًا من (خُراسان)، التي استُشهد فيها يحيى بن زيد "عَلَيهِما السَّلَامُ"، فكانت النتيجة في نهاية المطاف: هي الثورة العارمة، للإطاحة ببني أمية، وسيطرتهم على الأمة الإسلامية، والتحرر منهم.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
القاها السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام زيد 1445هـ