الإنسان قد يتشبث بهذه الحياة، مع أن الأغلب يعيشون ظروفاً صعبة في هذه الحياة، ليس لأنهم في نعيم في هذه الحياة، ولكن هذه حالة لدى الإنسان، يتشبث بالحياة، وبالاستمرارية في الوجود في هذه الحياة، ويقلق من أي شيء قد يشكِّل تهديداً على حياته، أو على استمرارية حياته، هذا يؤثر على الكثير من الناس حتى تجاه المسؤوليات العظيمة، المواقف العظيمة والمهمة، مهما كانت أهميتها:
-
أهميتها لهم في هذه الدنيا: في أن يكونوا أحراراً، أعزاء، كرماء، في أن يدفعوا عن أنفسهم الظلم، والضيم، والقهر، والذلة، والهوان، والاستعباد.
- وأيضاً أهميتها لهم عند الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في الآخرة: في أن يفوزوا برضوانه وجنته، والنجاة من عذابه.
مع كل هذه الأهمية الكثير من الناس- لضعف الإيمان، ومستوى الانشداد لهذه الحياة- يتهربون من الأعمال التي يتوقعون فيها أن تشكِّل خطورةً على حياتهم، على استمرار وجودهم، فيمثل الخوف من الموت أكبر عائقٍ لهم عن الاستجابة لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في أداء مسؤولياتهم تلك، التي هي مسؤوليات مهمةٌ لهم هم؛ لأن الله غنيٌ عنا، وعن أعمالنا؛ إنما هي مهمةٌ لنا، مفيدةٌ لنا، عائدها لنا في الدنيا والآخرة.
فَقَدَّم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" ما يعالج هذه الإشكالية لدى الإنسان، ضمن تدبيره "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" برحمته وبحكمته، فجعل للشهداء، لمن يضحون بحياتهم، وينالون هذا الشرف الكبير في سبيل الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، جعل لهم استثناءً تجاه مسألة الموت، ألَّا يكون مصيرهم هو الموت والفناء إلى يوم القيامة، أن يكون الموت بالنسبة لهم حالةً عابرةً محدودةً جداً، ينتقلون من خلالها إلى حياةٍ حقيقيةٍ فيها السعادة والتكريم الإلهي العظيم، فيها الفرح الدائم، والاستبشار الأبدي، فيها الراحة والسعادة والكرامة، وهذا ما أكد عليه في القرآن الكريم، في قوله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 169-171].
لا يمكن أن يكون الإنسان خاسراً أبداً في سبيل الله، لا يمكن للإنسان أن يخسر أبداً عندما يستجيب لله، عندما يؤدي مسؤولياته التي أمره الله بها، لا خسارة مع الله مطلقاً، إن تنفق من مالك، فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" يخلف عليك في الدنيا والآخرة، ويضاعف لك الأجر أضعافاً كثيرة، الإنفاق في سبيل الله في حده الأدنى يضاعف إلى سبعمائة ضعف، عندما تضحي بحياتك في سبيل الله، الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" بكرمه، برحمته، بفضله، يأبى لك أن تخسر، وأن تكون ممن خسر حياته، ولذلك يبدلك عن هذه الحياة، بحياة سعيدة، باستضافةٍ كريمةٍ لديه "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، استضافة عظيمة كما أكَّد في هذه الآيات المباركة، فهو ينهى أن نحسبهم، أو أن نتخيل، أو نتصور، أو نظن، أو يكون في حساباتنا وتقديرنا وظنوننا أنهم أموات، ينهانا عن ذلك، ويؤكد بعبارةٍ صريحةٍ واضحةٍ جداً: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، فهم في ضيافة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، لم يخسروا حياتهم، هم انتقلوا إلى حياةٍ أفضل، هذا هو كل ما في الأمر، انتقلوا من حياة، هذه الحياة بكل همومها، بكل آلامها وشدائدها، بكل معاناتها، إلى حياة سعيدة تماماً، سليمة من كل المنغصات، لا يشوبها كدر، لا يشوبها حَزَن، يعيشون فيها في إطار رعايةٍ إلهيةٍ عظيمة، وتكريمٍ كبير، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: توحي بهذا التكريم الكبير من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هم ضيوف الله، ضيوف الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" الكريم، العظيم، الرحيم، هذا فيه مواساة كبيرة، أبلغ المواساة لكل أقربائهم، وأحبائهم، وأعزائهم، وإخوانهم، فيه مواساة كبيرة، لا تقلق على شهيدك، هو حيث هو خيرٌ له مما لو كان عندك، هو يتمنى أن لو كنت عنده أنت؛ لأنه في حياة أسعد وأهنى وأطيب من الحياة التي أنت فيها.
{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، هذا دليلٌ قاطعٌ وواضح على أنهم في حياة حقيقية، أن الله يرزقهم فيها برزقه، ويحظون برعايته الواسعة، ويعيشون في حالة فرحٍ دائم.
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، آتاهم الشيء العظيم، الواسع، العجيب، الذي يفرحهم به، في ظل عطائه المتجدد والعظيم، فهم دائماً في حالة فرح، لا يساورهم أي هم، ولا أي غم، ولا أي ضجر، ولا أي ضيق، ولا أي ملل، ولا أي نقصٍ يعانون بسببه في شيء، حياة سعيدة بكل ما تعنيه السعادة.
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، هناك لا هموم، ولا غموم، ولا مشاكل، ولا أحزان، ولا قلق، ولا أي شيء يسبب الهم للإنسان، حالة فرح واستبشار دائمة.
{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}، لا زالوا يستبشرون لمن بقي وراءهم من إخوتهم في الدرب، في الطريق، في الموقف، في التوجه؛ لأنهم وصلوا هم وسبقوا هم إلى ذلك النعيم العظيم، إلى تلك الحياة السعيدة الطيبة، فهم يتذكرون إخوانهم وأعزاءهم وأحباءهم، ويستبشرون لهم أنهم سيلحقوا بهم إلى ذلك النعيم، إلى تلك الحياة السعيدة.
{أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، هي غاية ونتيجة يصل إليها الإنسان فيكون آمناً، آمناً للأبد، ولا خوف عليه، ليس في اتجاه يوصله إلى خسارة، أو إلى ضياع، أو إلى ندم لما قدَّم وعمل، أو لما ضحى به، على العكس {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، بل هم يستبشرون، يشعرون بالفوز، لا يحزنون على ما ضحوا به، ولا على ما وصلوا إليه وصاروا إليه، بل هم في حالة استبشار، كما قال: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}، نعمةٍ عظيمةٍ من الله، نعمةٍ واسعة تحقق لهم فيها الأمن الدائم، السلام الدائم، الحياة الأبدية السعيدة، الهناء الذي لا نهاية له ولا انقطاع، {وَفَضْلٍ}: عبارة تشمل كل عطاء الله الذي يشمله التكريم، نعم بتكريم، رعاية بتكريم، وبشكلٍ عظيم.
{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}، هذا يعتبر وعداً قاطعاً، وضمانةً إلهية مطمئنة، لا يمكن أن يضيع الله أجرم المؤمنين في تضحياتهم، في عطائهم، في صبرهم، في جهودهم، هي جهودٌ لا تضيع؛ لأن الذي يكتبها هو الله، الذي وعد بها هو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}[التوبة: من الآية111] كما قال في آيةٍ أخرى في سورة التوبة.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
كلمة السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
في الذكرى السنوية للشهيد 1443هـ