مـرحبـا بكم في موقع دائرة الثقـافـة القـرآنيــة

بالمكتب التنفيذي لأنصار الله

(1) لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي:

 

قد يستغرب البعض في طرح هذا الموضوع بعد مضي وقته ومناسبته لكن بالنظر إلى ارتباط موضوع البراءة بموضوع الولاية نجد أن هذا الارتباط يستدعي اتصال الأمرين ببعضهما اتصالاً لا انفكاك فيه، وهو ما سنراه من خلال ما ذكرته الروايات حول آيات البراءة في سورة التوبة التي ابتدأت بقوله تعالى: ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) [سورة التوبة]

 

يذكر المفسرون أن هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من السور، وليست هي السورة الأخيرة لأن السورة الأخيرة هي سورة المائدة.

 

وللأهمية التي تمثلها هذه السورة كونها إعلان براءة من المشركين، وإعلانًا أراد الله أن يسمعه جميع الناس بأنه بيان موقف صريح من المشركين والله هو من أصدره وأنزله على رسوله على هذا النحو ( براءة من الله ورسوله ..) ( وأذان من الله ورسوله..)، وللسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي (يحفظه الله) دروس مهمة تتناول مواضيع في السورة وهي على غاية من الأهمية من حيث علاقتها بالواقع في مرحلة تكاد السورة تشخص الكثير من الأحداث والسلوكيات، إضافة إلى موضوع البراءة الذي يمثل واحدًا من عناوين السورة.

 

وبالنسبة للموضوع الذي أتناوله هو يرتبط بالعنوان، والذي هو البداية التي بدأت بها السورة. وانطلاقا من كون الآيات التي جاءت كمقدمة للسورة ارتبطت بمناسبة ذكرها المفسرون والمؤرخون، واستنادا إلى ما رواه المحدثون وهي مناسبة ذات أهمية كبيرة ولا يمكن تجاهلها كونها ارتبطت بحدث له دلالاته، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد بعث بآيات البراءة أبا بكر عتيق بن أبي قحافة، وبعد أن مضى أبو بكر نزل جبريل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغه أنه لا يبلغ هذه الآيات إلا أنت أو رجل من أهل بيتك، فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام علي (عليه السلام) ليلحق بأبي بكر، ويأخذ الآيات منه ويذهب هو ليبلغها بدلا من أبي بكر.. وبالطبع أتمنى ألا ينظر البعض إلى الحديث عن هذه القضية بحساسية كون هذا البعض مجرد أن تتحدث عن مسألة فيها أبو بكر أو عمر لا يتعامل مع المسألة المطروحة بموضوعية وبعيدا عن الحساسيات المذهبية، وبالذات عندما تكون قد ذكرت في مصادر ومراجع مختلفة عند المسلمين وحتى لدى أهل السنة أنفسهم، وابن كثير واحد من ضمن الذين ذكروها في تاريخه وتفسيره، وينقلها عن رواة الحديث وغيرهم.

 

وأشار إلى أن ذلك كان سنة تسع أي في السنة التاسعة من الهجرة، وفي تفسيره للسورة نقل ما يلي: ( وقال أبو معشر المدني: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين.. إلخ) يعني أن محمدًا بن كعب القرظي وغيره هم الذين قالوا..! وهذا الجزء من النص يرينا كيف يتصرف الرواة في الروايات بإدخال إضافات عليها لتنسجم الرواية مع ما يعتقدونه لتكون فيما بعد نصا يحتجون به على الأمر الذي يعتقدونه ( أبا بكر أميرا .. إلخ)، والناس البسطاء يتلقون ما قاله أولئك مما استنبطوه هم وجعلوه داخل نص الرواية التاريخية وقد تكون بالنسبة لهم إضافة معروفة، لكن في مرحلة أخرى ينظر إليها البسطاء من الناس وكأنها ضمن النص الأصلي، فيعتقدون قول الرواة حديثا شريفا مع أنه كلام راوٍ يزعم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر أميرًا. لكن لو افترضنا صحة ما قالوا فإن قولهم ( وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين.. إلخ) معناه أنه بعثهما معا وهو بخلاف ما نصت عليه الروايات التي لدى المحدثين الذين ذكروا المناسبة وابن كثير نفسه ذكرها في نفس الموضوع، ومما أورده في تفسيره: ( وقال الإمام أحمد -ابن حنبل- بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث بـ(براءة) مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: ( لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي) . فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا معناه واضح: أبو بكر وحده ذهب فلما وصل إلى ذلك المكان بعث الإمام ليحلق به، ثم قال: ورواه الترمذي في التفسير.

 

وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: بسنده عن علي رضي الله عنه قال لما نزلت عشر آيات من ( براءة) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال:( أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه، فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم.) فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه.. ورجع أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، نزل فيَّ شيء ؟ فقال: ( لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت، أو رجل منك) وانظر كيف علق ابن كثير بقوله: هذا إسناد فيه ضعف، وليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره، بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها!

 

فتأمل الاهتمام بمسألة التأمير كيف جعله ينفي رجوع أبي بكر من فوره؛ لأن لذلك دلالة تؤدي إلى نتيجة لا يريدها ابن كثير مع أن الرواية واضحة، لكن ورغم تضعيفه للسند فهو بما قاله أكد على صحة مضمون نص الرواية باعتراضه على مسألة زمن الرجوع فقط، أي أن نزول جبريل بما نزل وأبلغه لرسول الله صحيح ورجوع أبي بكر أيضا وسؤاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما سأله(نزل فيّ شيء ؟) صحيح ولا اعتراض عليه من قبل ابن كثير، وإنما انصب اعتراضه على أن أبا بكر رجع من فوره، هذا هو ما اعترض عليه فقط.

 

ومع ذلك حتى لو كان الأمر بالشكل الذي قالوه وهو أنه بعثه أميرًا، فإن الرواية الصحيحة تذكر أن أبا بكر رجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي أنه لم يكن موجوداً في الحج، لكن التكلفات التي يسعون من ورائها لإثبات ما لا يثبت هي التي كانت تأتي بمثل هذه التجاوزات التي اصطنع أكثرها في العصر الأموي وعلى وجه التحديد زمن معاوية.

 

إذن اعترض ابن كثير على قضية رجوع أبي بكر من فوره لكن إقراره بصحة مضمون النص تجعل اعتراضه لا قيمة له، فلا يصح تفسير عبارة داخل أي نص خارج سياقها الذي وردت فيه، ولو أنه سُمح بالتعامل مع النصوص بهذا الشكل لما صح شيء، والمنطق والعقل ينكر ذلك ولا يقبله، ومن هنا نفهم كيف أن كل جيل من الرواة والمؤرخين يقوم بالتصرف في النصوص بحسب ما يعتقده في هذا أو ذاك لا بحسب ما تصل إليه وتدل عليه، وما فعلوه هنا هو أنهم استنبطوا ( أميرا على الموسم) استنباطا ثم صارت جزءًا من النص مع وجود النص الصحيح الذي لا يوجد فيه ذلك الاستنباط؛ لأن القضية هي مهمة وواضحة يذهب بها رجل واحد فقط وليس موكب حجيج جعل عليه أميرًا، إنما هي (براءة) بعث بها أبا بكر أولا ثم نزل جبريل بما نصت عليه الرواية، فبعث النبي عليا وأمره باللحاق بأبي بكر ليأخذ الآيات منه. هذا هو كل ما في الأمر لا أمير ولا مأمور، لأنه لا حجيج خرج بهم لا أبو بكر ولا الإمام علي (عليه السلام) حتى تكون هناك إمرة، لأن الغاية الأساسية والمطلوب هو البلاغ والإعلان لما نزل من سورة التوبة ( براءة)، فهو أداء وتبليغ لا يصلح له إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو رجل من أهل بيته.

 

 

 

 (2) البراءة مبدأ أساسي

 

الأهمية والدلالات:

 

إذن قوله تعالى: ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) إلى آخر (البراءة)، هذه الآيات ارتبطت بالمناسبة التي أشرنا إليها وهناك نقاط لابد من التوقف عندها:

 

* ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي أننا أمام مبدأ من المبادئ الإسلامية المهمة والأساسية، ولهذا جعل الله الموضوع مرتبطا به وبرسوله ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ليكون لهذا الربط دلالاته على أساسية الموضوع، وليأخذه المؤمنون بشكل جدي وحتى لا يستهينوا به، وكأن (مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) تستدعي (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٩٢)' [سورة المائدة] وسيأتي الحديث عن دلالة تكليف الإمام علي (عليه السلام) بحملها وإعلانها على الناس.

 

* بعث النبي أبا بكر كما أشارت الروايات بـ(براءة) ثم نزل جبريل بعد أن كان قد مضى ليبلغها، والموضوع أراد الله من ورائه تدبير حين بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر أولا ثم أرسل جبريل (عليه السلام) إليه ليوضح له أنه تكليف لا يؤديه (إلا أنت أو رجل منك).

 

إذن هو موضوع من المواضيع التي لا تخرج عن دائرة الاختصاص، أي أنه لا يبلغه إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو رجل من أهل بيته.

 

* نزول جبريل يعني أنه لا يرسله الله إلا عندما تكون المسألة على غاية من الأهمية والخطورة (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ... (٨) [سورة الحجر] وأن هناك ترتيبًا يريده الله كما أشرنا، ولو كانت المسألة بسيطة لما نزل جبريل (عليه السلام)، أي أن النزول لوحده له دلاله وهي أن الأمر له أهمية كبيرة.

 

* الترتيب والمقصود هو ببعث أبي بكر ثم الإمام علي (عليه السلام) يشبه إلى حد ما الترتيب الذي حصل في خيبر حين بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر ثم عمر، ثم بعد ذلك بعث الإمام علي (عليه السلام) بغض النظر عن التفاصيل.. التركيز هو على الاختيار وحسب، اختيار الأشخاص ثم لا يكون للأمر إلا علي (عليه السلام)، هذا ما عنيته أو هذا هو وجه الشبه، لأن الله الذي يعلم غيب السماوات والأرض، الله الذي له الخلق والأمر والتدبير هو قد علم بما سيكون. وهو أيضاً يشبه ما حصل في غزوة الأحزاب حين اقتحم عمرو بن ود الخندق مع مجموعة من الفرسان وصال وجال ودعا للمبارزة ثلاث مرات وارتجل شعرا وعيّر المسلمين بذلك الشكل الذي اتهمهم من خلاله في صدق إيمانهم حين خاطبهم بما معناه أنتم تدعون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار فمن أراد الجنة أو أراد لي النار فليبرز لي، أو قريباً من هذا المعنى، ولم يكن ينهض للتصدي له إلا الإمام علي (عليه السلام) فيجلسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل مرة ليرى الذين يتصدون للإمارة ويرى كل المؤمنين في مثل هذه المواطن التي تحتاج إلى قيادة تكون حاضرة حين يحجم الجميع وإلا دارت الدائرة على الأمة بأكملها. أليس ذلك هو ما كان سيكون لو لم يوجد من يتصدى لعمرو، لو لم يخرج له الإمام علي (عليه السلام)؟

 

 * التكليف: هو أخذ الكتاب الذي فيه الآيات بـ( البراءة )، وإعلان البراءة من المشركين في يوم الحج الأكبر.

 

* المُكَلف: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بعث أبا بكر فنزل جبريل بخصوص ذلك من قِبَل من يعلم السر في السماوات والأرض من قبل العليم الخبير، العليم بذات الصدور، والمهمة لها علاقة بالاختصاص الإلهي ولا يقوم بالتكليف بالشكل المطلوب ولا يؤدي المهمة ( إلا أنت أو رجل منك)، ولا يصلح لهذا البلاغ إلا أنت أو رجل منك. فلماذا لم يقل جبريل أو علي ((عليه السلام)) هكذا بصورة مباشرة بل قال (أو رجل منك)، مثلا في خيبر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله) أي أنه أتى بها هكذا (رجلاً) فجاء باللفظ بصيغة التنكير، ثم عرفه بالوصف الذي وصفه به وبالرغم من ذلك فلا يزال الغموض يكتنف الخبر لأنه لم يقل (منك)، وهو الذي جعل الصحابة جميعاً يتطلعون لذلك الشرف العظيم بما فيهم عمر الذي عبر عن تطلعه بقوله: والله ما تمنيت الإمارة إلا يومذاك. وهذا لا يعني إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له أن يختار ويكلف من يراه وليس للمؤمنين إلا أن يسلموا، ولا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما اختار.

 

 والجانب الآخر هو أن التنكير وسّع الدائرة وجعل المجال مفتوحا دون تخصيص إلا بذلك الوصف، لكن جبريل في مهمة إعلان البراءة قال ( أو رجل منك) يعني كما جاء في الرواية الأخرى ( لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي)، يعني المكلف لا يكون إلا من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من دائرة الاختصاص أي من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومَن هو مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمنزلة الخصيصة أو كما قال الله سبحانه وتعالى ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) (١٧)[سورة هود] وهو (عليه السلام) منه أي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهذا التخصيص دلالته أيضاً. فكما قلت سابقاً أن قوله تعالى ( من الله ورسوله ) تستدعي (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٩٢)' [سورة المائدة] لأن المسألة حين يتم تقديمها بهذا الأسلوب ( الله ورسوله) فهي خصوصية، ثم هي تقتضي التسليم الكامل والطاعة المطلقة ما دام الأمر ضمن هذه الدائرة التي يكون العمل في إطارها هو الرشد الذي تبيّن من الغي، ومن يخالفون فهم الذين يجب أن يحذروا عاقبة المعصية.

 

 إذن تكليف الإمام علي (عليه السلام) له دلالة ( ويتلوه شاهد منه)، وله دلالة ( وزيرا من أهلي)، وله أيضاً دلالة البعدية ( إلا أنه لا نبي بعدي) أي الاهتمام بمن يختص بالأمر من بعد النبي. هذه مسائل جوهرية في المنهجية الإلهية ( يأتي من بعدي) حتى يصح (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)' [سورة النساء] فتأمل كيف توالت واحدة بعد واحدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أليس هذا النص يرينا كيف أتم الله النعمة وكيف أنه لم يترك القضية للاختيار العشوائي الذي لا يرى إلا ظواهر الأمور، وفي نفس الوقت تكتنفه عوامل خارجية مؤثرة. ونحن رأينا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختار في البداية واحدا من المسلمين لكنه اختيار في الإطار العام حتى نزل جبريل بما نزل ليكون ذلك تمهيداً لأولي الأمر الذين على رأسهم وأولهم هو الإمام علي (عليه السلام)، وإلا كيف يصح (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). الله يخاطب هنا الذين آمنوا ويأمرهم بأن يطيعوا أولي الأمر منهم، فهل من المعقول أن يأمرهم بطاعة من لا يعرفونهم ؟! هل يعقل أن يدعي أحد من المؤمنين على الله أنه أمر المؤمنين بطاعة مجهول لا يعرفونه مع أنه سبحانه وتعالى قد عطفهم على رسوله كما هو واضح في الصلوات الإبراهيمية ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)، وجعل هنا طاعتهم وطاعة الرسول واحدة حين قال (أَطِيعُوا اللَّهَ..)، وبعدها قال (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، فلم يقل وأطيعوا أولي الأمر منكم بل عطفهم على رسوله بواو العطف، وهذا كله يدخل في إطار الترتيبات لما بعد "إلا أنه لا نبي بعدي". إذن اكتملت بهذا دائرة الولاية الإلهية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦) [سورة المائدة]

 

* الزمان: وهو ما ذكره ابن كثير في تفسيره: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر في سنة تسع ولأنه لا يؤدي ذلك التكليف بإعلان البراءة إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو رجل من أهل بيته فكان هذا الرجل هو الإمام علي (عليه السلام). ودلالة الزمان هنا هي في كونها السنة التاسعة من الهجرة والحج هو المناسبة الوحيدة لبلاغ الأمور ذات الأهمية البالغة التي تستدعي أن تصل إلى أكثر أعدد ممكن وأبعد مسافة ومنطقة ممكنة، ولم يعد هناك فسحة من الوقت سوى هذه السنة أي التي قبل حجة الوداع وهي آخر سنة شهد فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحج، وهي التي كان هو المكلف بالبلاغ فيها هذا أولاً. أما ثانياً فدلالة الزمان مرتبط بنزول البراءة فيها وما كان بعد ذلك من تفاصيل نزول جبريل بتوجيه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعلق بما أنزل إليه من ربه في البراءة وإعلانها ومن يقوم بالمهمة والتكليف، وهو علي (عليه السلام)، فكانت بمثابة التمهيد لما سيحصل في السنة القادمة السنة العاشرة. وباختصار السنة التاسعة حملت عنوان ( البراء) وهي (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) والذي حملها وأعلنها وأسمعها للناس في يوم الحج الأكبر هو الإمام علي (عليه السلام) (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ). وأما السنة العاشرة فقد حملت عنوان ( الولاء) وإذا كان الإمام علي (عليه السلام) هو الذي أذّن بالبراءة من المشركين فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي كلفه الله بإعلان ولاية الإمام علي (عليه السلام) في السنة العاشرة بعد رجوعه من حجة الوداع، أي أن ( الولاء والبراء) ارتبط بالإمام في كلا الأمرين.

 

* المكان الذي أدرك فيه الإمام علي (عليه السلام) أبا بكر وأخذ منه الكتاب المحتوي على مضمون التكليف، هذا المكان هو ذو الحليفة أو الجحفة ولهذا دلالة قوية جدا، لأنه المكان الذي نزل فيه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧)' [سورة المائدة] بشأن عقد الولاية لعلي والمكان الذي جمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجيج الذين بلغوا أكثر من مائة ألف حاج من كل البقاع التي وصلها الإسلام في ذلك الوقت، وبأمر الله بلغ الناس ما أمره الله وقام وإلى جانبه الإمام علي (عليه السلام) في مكان مرتفع ليراهما الناس ورفع يده وخطب خطبته التي اشتهرت بخطبة الغدير واشتهر من الخطبة حديث الغدير، فقال: ((يا أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم وَالِ من وَالاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخْذُل من خَذَله)). تسلسل هذا الحديث والترتيبات التي أعلن فيها الرسول (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) هذا الموضوع تنسجم انسجاماً كاملاً مع لهجة تلك الآية الساخنة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67). موضوع هام بالغ الأهمية، قضية خطيرة بالغة الخطورة، ورسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) يعرف ويقدر كل موضوع حق قدْره، ويعطي كل قضية أهميتها اللائقة بها. [ملزمة حديث الولاية]

 

 

 

 (3) الترتيب الإلهي:

 

وهذا له دلالة على كون الاختيار شأن إلهي لا يدخل ضمن الحسابات المذهبية:

 

فإذن دلالة المكان فيما سبق هي تكمن في أن الجحفة التي أدرك فيها الإمام علي (عليه السلام) أبا بكر كانت المكان الذي شهد بعد حجة الوداع إعلان الولاية للإمام علي (عليه السلام) عند غدير ماء يقال له غدير خم، فهل أن الإمام علي وجد أبا بكر أيضا عند ذلك الغدير ربما لأن المسافر بعد أن يقطع مسافة طويلة فهو يحتاج إلى الراحة والتزود بالماء أو الاغتسال من وعثاء السفر أو الوضوء للصلاة والراحة هذه أمور واردة.

 

فتأمل كيف وقع هذا الاتفاق بأن يكون هذا المكان هو نفسه المكان الذي أدرك فيه الإمام علي (عليه السلام) أبا بكر حين لحق به ليأخذ منه الكتاب! إن الإنسان ليندهش لهذا الترتيب الذي لا يمكن أن يهيئ له بهذا الشكل بحيث يكون لقاء الإمام علي بأبي بكر فيه المكان الذي لن ينساه أبو بكر ولا عمر ولا الصحابة الذين وقفوا تحت حر الشمس في الثامن عشر من ذي الحجة.

 

حمل أبو بكر الآيات وتحرك، بعد ذلك جاء جبريل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكلف علي (عليه السلام) ليلحق بأبي بكر فلولا أن الله هو الذي رتب ورسم ووقت لتحرك الإمام حتى يكون اللقاء في ذلك المكان الذي سيشهد في الثامن عشر من ذي الحجة يوم إعلان ولايته ،وفي المكان الذي انطلق منه ليكون هو الذي يبلغ عن الله ورسوله البراءة من المشركين فقد أخذها الإمام علي (عليه السلام) بتوجيه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه هو الوحيد من أهل بيته الأرقى تأهيلاً والأشد إخلاصاً لله ورسوله، والأقدر على الأداء عن الله ورسوله، والأكفأ بالقيام بما كُلف به على النحو الذي يكون في أدائه كما لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أدّاه وبلغه للناس.

 

إذن الأمر لم يكن من قبيل المصادفات، بل هو الله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢)' [سورة الفرقان]

 

هو الذي أراد أن يحفظ الحق ليس بالحديث فقط بل وبالأحداث التي رتب ورسم لها لتكون أعلامًا لا تطمسها القرون، وحقائق لا تخفيها السنون، بل تبقى شواهد تراها العيون ودلائل يتناقلها المسلمون، ويثبتها الموالون والمخالفون، ويبينها العلماء العالمون، ولتكون آية لمن يتفكرون أنه فعلا لا يبلغها "إلا أنت أو رجل منك" حتى عصرنا هذا، وبراءة لم يبلغها إلا علي (عليه السلام) ومن أنجبه علي عبر تاريخ. الصراع بين أولياء الله وأعداء الله والإمام الخميني (رحمة الله عليه) هو من جهر بها وأسمعها للناس وأرعب بها طاغوت هذا العصر أمريكا الشيطان الأكبر في القرن العشرين، وهو من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذرية الحسين (عليه السلام)، وفي القرن الواحد والعشرين أطلقها الشهيد القائد الحسين بن بدر الدين (رضوان الله عليه) وهو من ذرية الحسن (عليه السلام). إذن القضية فوق الحسابات المذهبية والحساسيات الطائفية.

 

ومن هنا فلا ينبغي لأي مؤمن أن تتحرك داخله تلك المشاعر السلبية والساذجة حين نتطرق لموضوع يكون فيه أحد الصحابة أو بعضهم ما دام تناول الموضوع يناقش حقائق ثابتة وبكل موضوعية وواقعية؛ لأن الحقائق التي يقدمها لنا الله ورسوله من غير الممكن أن نراها ونعلمها ثم نمر عليها ونتجاوزها، لأننا لو فعلنا ذلك لتجاوزنا الهدى وتجاوزنا الصراط المستقيم، وهل يمكن لمن ينهج هذا النهج أن يكون له بصيرة وهو تخلى عن البصائر؟! هل يمكن أن تسلم له ثقافته ويمتلك رؤية صحيحة ونظرة صائبة وأن تكون معاييره مستقيمة وهو قفز على الصراط المستقيم ؟! مثل هذه القفزة وغيرها من القفزات، لا تنتهي بالناس إلا إلى الهاوية، حيث الظلمات والعمى، وغياب الرؤى، وانعدام الحلول، وانغلاق المخارج والسقوط المستمر الذي وصل بالأمة إلى أن تسقط تحت أقدام اليهود والنصارى كما فصّله الشهيد القائد الحسين بن بدر الدين (رضوان الله عليه) في دروسه القيمة التي سلطت الضوء على مواطن الخلل في كل واقع الأمة عبر تاريخها حتى لو كانت بتلك الحساسية التي ينظر إليها الناس، لأن الأمر له علاقة بالله ورسوله قبل أي إنسان مهما علا مقامه وارتفعت منزلته، وهل يمكن لكل من يؤمن بالله ورسوله أن يتنازل عن هذا الإيمان لأجل أي شخص هل يمكن أن يكون في قلبه من هو أعظم من الله ورسوله ؟! أو تستثار مشاعره ويلتهب غضبه بأشد ما يكون وإلى درجة أن يُقاتل ويُقتل ويكون ذلك من أجل آخرين غير الله ورسوله ؟! وهل من يفعل ذلك لا يزال يرى أنه مؤمن ؟! أو يعتقد أن ما هو عليه من الإيمان الذي يغضب فيه لغير الله ورسوله هو الإيمان الصحيح بينما تجد مشاعر غضبه باردة وقد تصل إلى درجة التجمد لدى البعض حين يكون الأمر متعلقًا بالله ورسوله ؟!

 

إذن وبعد أن تتجلى لنا الحقائق بشكل كبير ونرى بعض الأنظمة تتاجر سياسيا بالقضايا الطائفية والمذهبية وتمارس التضليل والخداع باسم الصحابة، وباسم عائشة، وباسم السنة تشحن وتحرض شريحة واسعة من الجهلة مستغلة جهلهم لتجنيدهم في معسكر الشيطان، وبالذات النظام السعودي والوهابية التي تصدر أحكام التكفير بحق المنتمين للإسلام وتحرض على قتالهم وقتلهم تحت عناوين مذهبية في الوقت الذي لا ترى بأسا في التحالف مع اليهود والنصارى ضد المسلمين، ولا يرى شيخهم وإمام حرمهم بأسا في الدعاء لأخطر أعداء الأمة لترامب الذي طفح بالعنصرية المقيتة ضد الإسلام والمسلمين، ترامب الساقط المنحط أخلاقيا الذي أعلن القدس عاصمة لإسرائيل، لا بأس أن يستقبلوه استقبال الفاتحين في أقدس ديار المسلمين لا بأس عند النظام السعودي والوهابية وعلماء السوء أن يتولوا اليهود والنصارى أمريكا وإسرائيل، وأن يكونوا مسخرين هم وثروات المسلمين التي منحوها للغرب وأمريكا الذين تكررت كل أشكال الإساءة منهم للقرآن الكريم والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجاته وأصحابه ومع ذلك لن تراهم يشحنون ويحرضون ضدهم كيف وقد صاروا أولياءهم، فلم يغضبوا لله ورسوله ولا لكتابه الذي أحرقه الأمريكيون على نحو الإساءة والحقد عليه، ومزقوه وداسوه، وفعلوا ما لا يخفى ولا غضبوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أكثروا من رسوم الإساءة إليه وأنتجوا فيلمًا مسيئًا إليه وإلى زوجاته، ولم يعادوهم ويتشنجوا عليهم كما يتشنجون في خطابات التحريض ضد فريق من المسلمين.

 

أما التحريض باسم السنة واستغلال هذا العنوان فيكفي أن ترى موقفهم من القضية الفلسطينية ومن أهل فلسطين وهم من أهل السنة، والعدو الذي احتل بلادهم هو العدو الذي وصفه الله في القرآن الكريم بأنه الأشد عداوة للذين آمنوا وهم اليهود، يعني أنهم خذلوا أهل السنة أمام اليهود العدو الذي سماه الله ولعنه وغضب عليه وذمه وحذر منه في كثير من آيات القرآن، واليوم انكشفوا بشكل كبير في ولائهم الشديد لليهود وتآمرهم الخبيث على فلسطين وشعبها، ومع ذلك هؤلاء هم الذين يستغلون عنوان الصحابة وأمهات المؤمنين والسنة للخداع والتضليل، وضرب المسلمين ببعضهم خدمة لمشاريع اليهود، وبمجرد أن يتناول البعض من المؤمنين قضايا حصلت في تاريخنا وموجودة في تراثنا، ويذكر فيها ما أدت إليه مخالفات البعض لله ورسوله، وما نتج عنها من كوارث وآلام ومصائب أصابت الأمة الإسلامية في كل واقعها ومستقبلها وتاريخها ودينها وعلاقتها بأهل بيت نبيها، بل وكما سبق القول عن علاقتها بالله ورسوله، فبمجرد أن تدرس وتطرح وتنتقد تلك المخالفات التي أدت إلى أخطر الانزلاقات التي هوت بالأمة ومزقتها، تجد أولياء اليهود والنصارى اليوم الذين ضحوا بالقرآن والرسول بل وبالإسلام والمسلمين في سبيل أمريكا وإسرائيل، هم من يقدمون أنفسهم أولياء لأبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وأمهات المؤمنين، ويصلون في استغلالهم إلى أعلى درجات الغلو حتى صار الإيمان والكفر ليس على النحو الذي رسمه الله في كتابه، بل يصنفون ذلك بناء على عقائدهم الباطلة وغلوهم الشديد الذي بلغ مستوى أن جعلوا التناول الواعي سبا وشتما حتى لو لم تسب ولم تشتم، ولهذا البعض يذهب نحو تجاوز تلك المسائل المتعلقة بأمر الولاء والبراء، وأمر الولاية، وتصحيح المفاهيم والنظرة إليها، يحرص على أن يتحدث عنها بأسلوب يحاول فيه تجاهل الحقائق نظرا لتحسس البعض من صراحة الحق وصرامته، فتأمل هنا كيف يقول الشهيد القائد الحسين بن بدرالدين (رضوان الله عليه): (لكن بالعودة إلى القرآن الكريم سنعرف أننا بحاجة إلى أن نتحدث بهذا الأسلوب، وبهذا المنطق، وإلا فنحن لسنا ممن طبائعهم حمقى أو ضيقة أو شديدي اللهجة على أي إنسان أو يتطاولون بألسنتهم على أي إنسان.. ليس هذا من طبعنا. ولكن هي الحاجة الماسة التي جعلتنا نتحدث حتى على الرغم من أننا نعلم أننا سنجرح مشاعر كثير من المسلمين بهذا الكلام. لكننا نقول: نحن أمة مجروحة يجب أن تبحث عن العلاج وعن سبب المرض، عن السبب الذي جعل هذا الجرح ينـزف دماً ولا نجد هناك من يلتئم الجرح على يديه. ليس عصر مجاملة، ليس عصر مداهنة، ليس زمن تغطية وتلبيس، زمن يجب أن تكشف فيه الحقائق على أرقى مستوى، وأن يتبين فيها بدءاً من هناك من مفترق الطرق من بعد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) من هـو السبب في كل ما نحن نعاني منه؟ حتى وإن كان علياً، حتى وإن كان عماراً، حتى وإن كانت فاطمة ناهيك عن أبي بكر وعمر وأضرابهم. ليست المسألة تحامل على الآخرين إنما هي شيء يجب أن نصل إليه من خلال ثقتنا بأن هـذا القرآن هو وحده الذي يهدي، من خلال اعتماد القرآن الكريم بأنه هدى الله الذي يهدي للتي هي أقوم، وبروحية القرآن نتحدث عن الآخرين، وبأسلوب القرآن نتحدث عن الآخرين أيضاً. إذاً فليس هناك مجال أن تبدو أكثر تسامحاً من الله، أو أكثر رحمة بالآخرين من الله، أو أكثر حرصاً على وحدة الأمة - فتقول من أجل الأمة تتوحد - من الله، إن الله سبحانه وتعالى هو الذي لم يراع مشاعر أولئك الذين يقول الكثير: لا بد أن نراعي مشاعرهم، بل خاطبهم بلهجة قاسية في قضية تبدو عادية للبسطاء).

 

الزمن الذي لم يصل التضليل في كثرة وسائله وخطورة أساليبه المستوى الذي هو عليه في عصرنا، وتوقف مليًا عند هذا التهديد: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥) [سورة الإسراء]

 

وأمام هذا الهول والخطر نقول: هل هناك من هو أكرم على الله من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أرفع منزلة أو أعلى مكانة أو أحب أو أعز أو أقرب إلى الله منه ؟!! لا أعتقد أن هناك في المسلمين على اختلاف توجهاتهم وتباين رؤاهم من يقول نعم هناك من هو أكرم.

 

ومع ذلك هكذا يتوعده وهو الطاهر المطهر والأزكى الذي زكى وإنما ذلك لنستوعب نحن خطورة الذهاب بعيدًا عن الوحي والانصراف والتولي عنه إلى غيره لنقول لأنفسنا، ونقول لبعضنا إذا كان هذا قد توجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من هو في عظمته وعصمته ومقامه، فهل يمكن أن يستثني الله غيره ممن هم أدنى منزلة بل ولا يقارن به أحد من الأولين والآخرين؟! ومع ذلك كانت تتوجه له خطابات قوية وشديدة في لهجتها من مثل ما سبق حتى لا نتجاوز نحن ونقدس أشخاصاً ونفترض لهم ما لم يكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنقرأ عنهم فيما صح أنهم فعلوا ما يحبط الأعمال، وخالفوا وتجرأوا على العصيان، ثم لا يزال البعض يفترض لهم ما لم يكن لخير خلق الله وأفضل رسل الله أو نسمح لأنفسنا بأن نتصرف، ونقول ونفعل دون أن نرجع إلى الله من خلال القرآن الكريم، لنقيم مواقفنا وأفعالنا وأقوالنا هل أنها تستقيم على ما أمرنا الله بالاستقامة عليه أم أننا ننطلق في مواقفنا، وولائنا، وعدائنا، وحبنا، وبغضنا، ورضانا، وسخطنا، وقولنا، وفعلنا هكذا، إما اتباع للهوى أو مجاملة ومحاباة أو رغبة أو رهبة أو غير ذلك مما يصح أن يصدق عليه أنه يمشي مكبا على وجهه، أو يعمل ببعض ويترك بعض، وهذا مجاف للإيمان مناف للإخلاص، وما أكثر التوجيهات الإلهية التي نتعلم منها مما قاله تعالى لحبيبه المصطفى ونبيه المجتبى ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤) [سورة الزمر]

 

هي هكذا لا سبيل آخر، ولا طريقة أهدى وكان في المؤمنين زمن تنزل الوحي من يعترض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحاد ويجادل، ويريد أن يقترح عليه وأن يسمع له ويطيع أي أنه كان هناك من لم يستوعب الهدى ولم يفهم الإيمان بمفهومه الصحيح فقال الله لهم: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) [سورة الحجرات]

 

إذن نحن أحوج ما نكون إلى مراجعة تراثنا وتاريخنا وبالذات الفترة من زمن حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وانطلاقا من الرؤية القرآنية الواضحة، وعبر أعلام الحق وقرناء الكتاب الذين هم الأمان لأهل الأرض والذين أحدث الله على أيديهم تحولات كبيرة لصالح الأمة، وخصوصا عندما نكون ممن شهد هذه المتغيرات والتحولات التي سقطت فيها أصنام بشرية لم يكن يتوقع أحد سقوطها بالذات في بلدنا اليمن، لأن انتصار المستضعفين في زمن الطواغيت على طواغيت عصرهم رغم قلتهم وكثرة عدوهم ورغم ضعفهم بالمعنى المتعارف عليه ورغم قلة إمكانيتهم، ومع ذلك تمر الأيام وتحدث متغيرات تخدمهم وتنقلهم نقلات حتى رأى الناس الذين كانوا في الأعلى صاروا في الأسفل والعكس، هذه آيات يعتبر المرور عليها والإعراض عنها إعراض عن دلائل الهداية (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥) [سورة يوسف]

 

وتعامي عن الآيات التي يكشفها الله للأبصار لترى الحق وهو يعلو بأهله حتى وهم ضعاف ماديا، وينتصر حتى وهم قليل: (...قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)' [سورة البقرة]

 

والانتفاع والاهتداء بالآيات التي يجليها الله لعباده هي منهجية إلهية (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) [سورة فصلت] ومن الآيات التي يكشفها الله للناس ما له علاقة بالنصر كقوله تعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣) [سورة آل عمران]

 

ونحن نرى اليوم الذين أعلنوا البراءة في وجه طاغوت هذا العصر كيف أنهم تحققت على أيديهم المعجزات إذا جاز التعبير، وأن القيادات من آل محمد وخصوصا تلك التي سارت على ضوء القرآن الكريم ونوره، والتزمت في السير على سنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العمل بوصيته: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وعترتي أهل بيتي.. إلخ). هؤلاء اليوم هم الذين قدموا الشاهد الحقيقي على صدق الله ورسوله في كل ما جاء من الهدى والحق، وقدموا الشاهد الصحيح على عظمة الإسلام، وعظمة الله، وعظمة رسوله، والأعلام الساطعة من بعده في الزمن الذي وجد فيه من قدموا الشاهد الزور والشاهد المشوه للإسلام والقرآن والرسول، وللجهاد من خلال ذلك النهج التكفيري النجدي الوهابي الذي أعطى أعداء الإسلام الكثير من الشواهد المشوهة للدين والمنفرة عنه، والتي استغلها الأعداء وعملوا الكثير من الإساءات بحق الإسلام والمسلمين، ورموزهم ومقدساتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله الطاهرين.. 

ـــــــــــــــــ 

بقلم : محمد القعمي 


  • نبذة عن المسيرة القرآنية

    المسيرة القرآنية : هي التسمية الشاملة لهذا المشروع القرآني, وهي التوصيف الذي يعرِّف به تعريفًا كامًلاً , فعندما نعبر عن طبيعة المشروع القرآني الذي نتحرك على أساسه نحن نقول: المسيرة القرآنية.. وهي تسمية من موقع المشروع الذي نتحرك على أساسه.

    فالمسيرة القرآنية توصيف مرتبط بالمشروع القرآني وهي التسمية الشاملة والأساسية لهذا المشروع

    وهذه المسيرة العظيمة تقوم على ....

    اقراء المزيد...
  • تابعنا على مواقع التواصل

    • تابعون على التيلجرام
    • تابعونا على تويتر
    • تابعون على اليوتيوب
    • تابعونا على الفيس بوك
تصميم وبرمجة : حميد محمد عبدالقادر