تحدث عن عاشوراء وعن فاجعة كربلاء من خلال عنوانٍ مهم: ما هي علاقة الأمة بتاريخها وماضيها؟ من خلال هذا العنوان ندخل إلى هذه الفاجعة وهذه المأساة الكبرى التي سطَّرها لنا التاريخ، وكانت حادثةً عظيمةً ومؤسفةً ورهيبةً في تاريخ الأمة، عندما نعود إلى واقعنا فإنه هو الأساس الذي ننطلق من خلاله لقراءة التاريخ ولاستشراف الماضي.
الحاضر- أيها الإخوة والأخوات- الذي نعيشه، والواقع الذي نحن فيه بكل ما فيه إنما هو نتاجٌ للماضي، وأيضاً هو عندما نتجه لإصلاح ما فيه وللتغيير فيه، فنحن سنكون حتماً بحاجة إلى العودة إلى هذا الماضي، لنشخِّص من خلاله جذور ما نعيشه من المشاكل والاختلالات والأزمات، ولنستفيد مما في ذلك الماضي وما في ذلك التاريخ من الدروس والعبر التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها للاستفادة منها في معرفة الطريقة الصحيحة، الحلول الصحيحة الناجعة والمفيدة التي تنقذ الأمة مما تعانيه.
إذا تحدثنا عن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية بشكلٍ عام فكلنا يعرفه: واقعٌ مليءٌ بالمشاكل والأزمات والصراعات والحروب، واقعٌ تعيش فيه الأمة حالة الفرقة والاختلاف، واقعٌ مليءٌ بالمظالم، ومليءٌ بالمفاسد، مليءٌ بالمنكرات، مليءٌ بالأزمات والمشاكل، تعيش فيه الأمة التخلف على المستوى الثقافي والعلمي والمعرفي والحضاري، وتعيش فيه الأمة أيضاً المشكلة الكبرى في واقعها الاقتصادي، من خلال ما تعانيه من الأزمات الشديدة التي لا تعود إلى ندرة الموارد، أو إلى افتقار هذه الأمة فيما لديها وفيما هي فيه على مستوى الثروات والإمكانات والطاقات، وعندما ندرس سبب هذا الواقع الذي نحن فيه، هل هو حالة مفاجئة، وأتت وطرأت على واقعنا بشكلٍ مفاجئ كأمةٍ إسلامية بمختلف شعوبها وبلدانها وأقطارها، أم هي حالة ورثها هذا الجيل كما كانت حالةً قائمةً على امتداد الأجيال الماضية، على مدى مئات السنين- القرون تلو القرون- التي عاشت ظروفاً مشابهة، وفي بعض الأحوال ظروفاً أصعب وأسوأ من هذا الظرف التي تعيشه الأمة في هذا العصر؟
الفجوة الكبيرة بين واقع الأمة والمسار الصحيح
من هنا نتطلَّع لنعرف جذور المشكلة؛ لأننا عندما نرى واقعنا وواقع الأمة بشكلٍ عام على هذا النحو، ثم نعود إلى حقيقةٍ مهمة: هي ما هو الواقع المفترض لهذه الأمة لو كانت وفق المسار الصحيح الذي رسمه الله -سبحانه وتعالى- لها؟ عندما نعود إلى القرآن الكريم لنعرف ما هو الواقع المفترض بحسب انتمائنا لهذا الإسلام العظيم كأمةٍ مسلمة، انتمائنا للقرآن، انتمائنا للاتباع للرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- نعود إلى القرآن الكريم فنجد الحقيقة المفاجئة والمؤلمة جدًّا، عن الفجوة الكبيرة جدًّا بين الواقع المفترض أن تكون الأمة عليه لو أنها سارت وفق ذلك المسار المرسوم لها من الله -سبحانه وتعالى- والواقع الذي تعيشه الأمة، وهو يختلف كلياً عن ذلك الواقع المفترض، ثم ندرس ما هي المشكلة وأين جذور هذه المشكلة.
الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه الكريم وهو يذكر نعمته العظيمة علينا كأمةٍ مسلمة، يقول -جلَّ شأنه-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 2-3]، الله -سبحانه وتعالى- امتنَّ علينا بخاتم رسله وأنبيائه سيدنا محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- وبعثه بالرسالة لينفِّذ مهمةً عظيمةً، لها أثرها الكبير في الناس وفي واقع حياتهم، يمتد أثرها في أنفسهم وإلى واقع حياتهم، هذه المهمة عبَّر عنها وفق النص القرآني: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وهذه النصوص المباركة في هذه الآية القرآنية: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، آيات الله -سبحانه وتعالى- التي هي نور، التي فيها الحقائق التي ينبئنا الله عنها ويخبرنا بها؛ فتصنع فينا البصيرة، وتمنحنا الوعي، ونكتسب بها الهداية، التي فيها أيضاً التوجيهات الحكيمة والبنَّاءة والمثمرة والنافعة والمصلحة للإنسان ولحياته، والتي فيها الدعوة من الله إلى كل خيرٍ ورشدٍ وفلاحٍ وعزةٍ، آيات الله التي هي من حكمته ومن رحمته، ويدعونا فيها إلى ما فيه الخير لنا، إلى ما يصلح حياتنا، التي فيها البرنامج الإلهي لهذا الإنسان الذي تصلح به حياته، وتستقيم به حياته، التي فيها- ما إن التزمنا به- ما يحقق لنا في واقعنا العدل، ما يحقق لنا في واقعنا الألفة والصلاح، ما يحقق لنا في واقعنا الاعتصام والكلمة الموحَّدة.
ما يصلح أنفسنا أيضاً من خلال قوله أيضاً: {وَيُزَكِّيهِمْ}، هذه التزكية التي تنمِّي فينا الخير، وتنمِّي فينا مكارم الأخلاق، وتهذِّب النفس البشرية؛ لتضبط غرائزها، ولتنقيها من حالة الميول الفاسدة، والنزعات الخطرة، والميول الشريرة، التزكية التي تعني تنمية مكارم الأخلاق، وفي نفس الوقت الحد من تنامي كل عناصر الشر في داخل النفس البشرية، وكل المساوئ والسلبيات التي تؤثِّر على الإنسان في أعماله، وفي تصرفاته، وفي مواقفه، وفي سلوكياته بشكلٍ عام.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}، من جديد تتمحور المهمة الرئيسية للنبي -صلوات الله عليه وعلى آله- حول الكتاب: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، وكذلك قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}، ورسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- في تعليمه الكتاب لم يكن مجرد أستاذٍ يقدم المعارف على النحو الذي يقدِّمه الأستاذ للتلاميذ. بل أكثر من ذلك، كان من موقع التربية، كان من موقع المسؤولية، كان من موقع القيادة، كان من موقع التحرك العملي، كان من موقع الإرشاد المرتبط بالواقع، الذي يتجه إلى هذا الواقع، كان من واقع الإدارة لشؤون هذه الأمة، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الحكمة لتكون أمةً حكيمةً في تصرفاتها، في مواقفها، في رؤاها، متوازنة، لا إفراط ولا تفريط، صائبة، راشدة، لا تعيش حالة الغباء، ولا تعيش حالة التحرك وفقاً للغرائز، ومن خلال الاندفاع الغريزي ومن خلال هوى الأنفس، أو من خلال رؤى خاطئة وأفكار باطلة؛ إنما لتكون أمةً راشدة، تمتلك الرؤى الصحيحة، المفاهيم الصحيحة، وتنضبط على أساسها في تصرفاتها الصحيحة والمسؤولة والمنضبطة بمعايير الحكمة وموازين الحكمة.
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ}: ما قبل هذه النعمة الإلهية ببعثة الرسول ونزول القرآن ومجيء الإسلام، {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، كل هذا كان غائباً عنهم، فكانوا يعيشون حالة الضياع بما تعنيه الكلمة، حالة التصرف بعيداً عن المسؤولية، عن الحكمة، عن الزكاء.
وهذه النعمة ليست منحصرةً وخاصةً بالجيل المعاصر لرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-؛ إنما أرادها الله نعمةً تستمر في هذه الأمة، وتستمر في الواقع البشري من خلال هذه الأمة التي إن سارت وفق المسار الصحيح يمكن أن تتسع دائرتها في الوسط البشري، ولهذا قال الله -جلَّ شأنه-: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} للأجيال القادمة، للأجيال اللاحقة، هذا هدى الله لها، هذه نعمة الله المقدَّمة لها.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وثمرة كل هذه النعمة الإلهية، كل هذه الإرشادات (نعمة القرآن، نعمة الرسول بهذه المهمة العظيمة): هي عزة، وهي حكمة، وهي خير، وهي رشاد، والله -سبحانه وتعالى- فعل كل ذلك بعزته وبحكمته.
أيضاً في القرآن الكريم يقول الله -سبحانه وتعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: من الآية110]، يريد الله -سبحانه وتعالى- للأمة الإسلامية أن تكون خير أمة، وهيَّأ لها خير قادةٍ وخير هداةٍ، هيَّأ لها الطليعة والنواة التي يمكن أن تقودها على هذا الأساس لتجعل منها خير الأمم.
{خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}؛ لأن المسؤولية مسؤولية عامة، مسؤولية تجسيد هذه القيم والتحرك بهذه الرسالة في أوساط البشرية، وقيادة المجتمع البشري على أساسٍ من هذه المبادئ والتوجيهات والتعليمات الإلهية المهمة
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاه السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
محاضرة السيد بمناسبة ذكرى عاشوراء 8 محرم 1441 هـ