يقول الله تعالى {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الأنعام: من الآية152].
العدل هو عنوانٌ مهمٌ جداً، من أهم العناوين الرئيسية التي ركَّز عليها القرآن الكريم والرسالة الإلهية في كل مراحل الرسالة، ومع كل رسل الله وأنبيائه، والله "سبحانه وتعالى" جعل من المسؤوليات الأساسية للمؤمنين: العمل على إقامة العدل، والعدل مطلبٌ مهمٌ، وحاجةٌ إنسانية، يضبط مسيرة الحياة، وهو الذي يخلِّص الناس من الظلم، لا بديل عن العدل إلَّا الجور والظلم، والعدل مطلوبٌ على مستوى الفعل، وعلى مستوى القول.
ولذلك أتى هنا التأكيد على العدل في القول، والحذر من الجور والظلم فيما نقول، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، مع القريب ومع البعيد، فلا بدَّ أن يحرص الإنسان من واقع استشعاره لأهمية العدل؛ باعتباره من اللوازم الإيمانية، من الالتزامات الدينية الأساسية في القول وفي الفعل، لا بدَّ أن يحرص على أن يكون ملتزماً بالعدل فيما يقول، سواءً كان الذي تقوله حكماً، أو كان شهادةً، أو كان موقفاً، أو كان تأييداً، أو كان رفضاً، أو كان تعليقاً حول قضيةٍ معينة، أو موضوعٍ معين، أن تحرص على ألَّا تجور فيما تقول، ألَّا تظلم فيما تقول، ألَّا تتجاوز العدل فيما تقول، وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن من أكثر ما يحصل فيه الظلم: الظلم في القول، الظلم في التعليق على كثيرٍ من القضايا، الظلم في إطلاق الأحكام بطريقة عشوائية، وعلى غير أساسٍ صحيحٍ على الآخر، وهكذا التجاوز في الكلام بطريقة جارحة وظالمة، فيكثر الظلم في القول؛ لأن القول وسيلة سهلة لدى الناس، وكثيراً ما يتحدث الناس ويعبِّرون عن مختلف القضايا، في صغيرها وفي كبيرها، ولكن قد لا يتنبه الكثير من الناس إلى أن يقولوا بمسؤولية، بإدراك أنَّ كلامهم وما يقولونه محسوبٌ إما لهم وإما عليهم، وأنهم محط رقابة الله "سبحانه وتعالى"، وأنه "جلَّ شأنه" مع أنه الرقيب على الإنسان فيما توسوس به نفسه، وفيما يقول، وفيما يفعل، هو أيضاً قد جعل علينا حفظةً ورصداً إلى جوارنا، ملازمين لنا، يراقبوننا في كل ما نقول، وفي كل ما نفعل، كما قال الله "سبحانه وتعالى": {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: الآية18]، فأنت ما تلفظ من قولٍ، إلَّا والملكان على يمينك وشمالك ومسؤوليتهما ومهمتهما الرئيسية: هي إحصاء وتوثيق ما تقول، على مستوى ما تلفظه من قولٍ وما تفعل.
لذلك يجب أن يكون الإنسان على يقظة، على وعي، على انتباه، على اهتمام، على إدراك لأهمية هذه المسألة، أهميتها من حيث موقعها الديني، من حيث أهميتها على المستوى الإيماني؛ لأنك تجسِّد إيمانك بالتزامك العدل فيما تقول، هذه واحدة مما تجسِّد به التزامك الإيماني والديني، مما يعبِّر عن إحساسك بالمسؤولية، عن تقواك لله "سبحانه وتعالى"، ثم أيضاً الإدراك لأهمية هذا من حيث آثاره، من حيث تبعاته في الواقع.
القول بعشوائية، بلا مسؤولية، باستهتار، والذي قد يتضمن الكلام الجارح الظالم، وقد يتضمن الكلام السيء، وقد يتضمن البهتان في بعض الحالات، البهتان لعباد الله، أو لأحدٍ من الناس، قد يتضمن الافتراء، قد يتضمن أيضاً التأييد للباطل، أو التأييد لظالم، أو الاشتراك من خلاله في جريمة، يمكنك أن تشترك في جريمة من خلال إطلاق عبارة تؤيِّد تلك الجريمة ومن ارتكبها، فتكون شريكاً في الجريمة نفسها، وهذه قضية خطيرة جداً، العشوائية، واللا مسؤولية، والتصرف في الكلام، وإطلاق القول بدون أي ضوابط ولا معايير العدل، يترتب عليه كل هذه الآثار والنتائج، فقد تشترك في بهتان، قد تشترك في افتراء، قد تشترك في جريمة، وقد تكون هذه الجريمة أحياناً على مستوى جريمة قتل، أو جريمة من أبشع الجرائم، قد تؤيِّد باطلاً، وهذه جريمة من أكبر الجرائم، التأييد للباطل وأهله، قد تقف مع ظالم، وهذه مسألة خطيرة جداً.
ثم التأثيرات السلبية على العلاقات الاجتماعية فيما بين المجتمع، التأثيرات السلبية على مستوى الأخوة الإيمانية، والتفاهم، والتعاون فيما بين المجتمع؛ لأن الكلام الجارح، الكلام الظالم، الكلام السيء، من ضمن تأثيراته السلبية: أنه يؤثِّر على وحدة المجتمع، على التآخي بين المؤمنين، على التفاهم، على التعاون؛ وبالتالي يؤثِّر على مدى تفاعل الأمة وقوتها في النهوض بمسؤولياتها الجماعية، وهذه مسألة خطيرة جداً، فيحسب الجرم في الكلام نفسه، عندما حِدْت عن العدل، عندما تجاوزت العدل، والجرم في آثاره، والجرم في نتائجه، والجرم فيما يترتب عليه، هذه قضية خطيرة جداً.
في هذا الزمن دخلت وسائل في واقع الناس، وسائل للتعبير، وسائل للتعبير، وسائل تترجم ما يقولونه، وتعبِّر عما يريدون أن يقولوه، مثل: مواقع التواصل الاجتماعي، وما أكثر ما يأتي فيها من الجور في الكلام! ما أكثر ما يحصل فيها من التجاوز للعدل! فيما يعبَّر فيها، فيما يقال فيها، ما يكتب فيه وهو قول؛ لأن القلم والكتابة هي وسيلة تعبير، هي وسيلة تعبير؛ ولذلك تدخل ضمن القول.
فيلحظ في ذلك أيضاً هذا التعامل بلا مسؤولية، والتعبير عن قضايا كثيرة، والتفاعل مع ما يطلق من شائعات ودعايات بلا تبين، بلا تحقق، بلا وزن للموقف، وزن للتعبير بميزان العدل، فيسهل على الكثير من الناس، والكثير من الشباب، والكثير من الرجال والنساء، الذين يدمنون على مواقع التواصل الاجتماعي، يسهل عليهم أي تعبير، تجاه أي قضية، مهما كان مبالغاً فيه، مهما كان جائراً، مهما كان... وقد يكون في كثيرِ من الحالات بهتاناً من الأساس، افتراءً من الأساس، والإنسان يكون قد حمَّل نفسه وزراً، وأغرق ذمته بذنبٍ ووزرٍ لم يكن له من حاجة، ولم يكن هناك من ضرورة لأن يفعل ذلك، لكن هكذا: [تشاعيب]، وأهواء، ورغبات، وانفعالات، والتفاعل الذي ينجرون إليه في ذلك الجو الذي هو سائد في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يطلق الإنسان موقفاً معيناً، أو تعليقاً معيناً فيه ظلمٌ وجورٌ، وهو مرتاح، يحس أنه أصبح شيئاً مهماً؛ لأنه يطلق مثل تلك التعبيرات والمواقف، لكنه عندما يرى يوم القيامة وزره وذنبه، وقد يتجمع الكثير الكثير، في بعض الأحوال قد تكون الأوزار في ذلك أوزاراً يومية، في كل يوم يحمِّل نفسه وزراً إضافياً، وأوزاراً إضافية، حتى يثقل نفسه بذنوب كبيرة، قضية خطيرة جداً، ولذلك يقول الله "سبحانه وتعالى": {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب: الآية58]، ويكثر هذا في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأن الإنسان بمجرد أن يرى أي شائعة، أو يرى أي دعاية، فكثيرٌ من الناس يطلقون فوراً بشكلٍ عاجلٍ جداً تعليقاتهم الخاطئة، تعليقاتهم الظالمة، تعليقاتهم الجارحة، تعليقاتهم المسيئة، وبتفاعلٍ سريع، وبدون تبين، وحتى بعد التبين بدون وزن لما يطلقونه من تعبير، أن يكون موزوناً بميزان العدالة، فلا يتجاوزه أبداً.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة المحاضرات الرمضانية، بتاريخ 29 رمضان 1442هـ