(هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ)، يعني: أمر به مالك، ما تضمنه هذا العهد في عهده إليه حين ولَّاه مصر، ثم بعد ذلك حدد له المهام الأساسية، في أربع مهام تشمل كل التفاصيل التي تتعلق بالمهام الأساسية في الدولة في النظام الإسلامي، (حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا).
أول عنوان هو قوله: (جِبَايَةَ خَرَاجِهَا)، يعني: إدارة الموارد المالية، التي سَيُعتَمد عليها في التمويل لإدارة شؤون الأمة فيما يحقق المصالح العامة للشعب، للأمة، للناس، وعلى أساسٍ من الحق والعدل، على أساسٍ من القسط، وهذه مسألة مهمة جداً، معروفٌ في كل الدنيا بمختلف نظمها، وقوانينها، وديانات شعوبها، وأفكارهم، أنه لابدَّ من أن يكون هناك تمويل لإدارة شؤون الناس، ونظم شؤونهم، لابدَّ من أن يكون هناك تمويل، وهناك سياسات لمسألة التحصيل المالي، ونُظُم لمسألة جمع المال والتحصيل المالي، وعادةً ما تسن في مختلف البلدان والنظم والأنظمة تسن قوانين معينة، أو تعتمد رؤية معينة لذلك.
الإسلام له رؤيته، الإسلام له منهجيته في إدارة الموارد المالية، فيما يحقق أهدافاً عادلة، أهدافاً لمصلحة المجتمع، أهدافاً عظيمة ومقدَّسة، تنسجم مع مبادئ الأمة الإسلامية وانتمائها للإسلام، وانتمائها للدين الإلهي الحق، الذي يحقق القسط في واقع
حياة الناس، فهي تعالج مشكلة الفوارق الاجتماعية، من خلال تخصيص جزءٍ من المال لرعاية الفقراء، لمساعدة المساكين، لإعانة الغارمين… وما شاكل ذلك، وأيضاً جزء آخر من المال يتجه لتمويل المهام الأساسية، لرعاية الناس في شأنهم العام، لحماية الأمة، لتنفيذ بقية المهام التي قال عنها: (وَجِهَادَ عَدُوِّهَا)، هذا يحتاج إلى تمويل، والأمة بحاجة إلى الحماية من أعدائها، الأمة لها أعداء يستهدفونها في كل شيء، يسعون إلى السيطرة عليها، يسعون إلى الاستعباد لها، إلى الاحتلال لأوطانها، إلى السيطرة على ثرواتها، إلى القهر لها، وإذلالها، للاستهداف لها في دينها ودنياها، فالأمة تحتاج إلى حماية، ولكي يتحقق هذا الهدف، يحتاج إلى تمويل، يحتاج إلى مال.
أيضاً في قوله: (وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)، وقوله: (وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا)، كل هذه المهام تحتاج إلى تمويل، وستأتي التفاصيل المتعلِّقة بجباية الخراج، أو ما يقوم مقام هذا التعبير فيما يعنيه إدارة الموارد المالية لتحقيق الأهداف المهمة لصالح الأمة، وإقامة العدل في واقعها، ورعاية حقوق المستضعفين فيها.
فجباية الخراج واحدٌ من المهام الأساسية كي يكون على أساسٍ صحيح، ينسجم مع مبادئ الأمة، وعلى أساس القسط والعدل، وكذلك في حمايته فيما بعد عملية التحصيل؛ لأنه سيأتي التفاصيل عن عملية التحصيل المالي، وكيف تدار الموارد المالية على أساسٍ صحيح، وكيف تكون حمايتها فيما بعد؛ لكي تسخَّر، ولكي توظَّف، ولكي تكون عملية صرفها ضمن ما شرعه الله سبحانه وتعالى فيما يخدم المجتمع، ويحقق مصالحه، ويحمي الأمة.
قوله عليه السلام: (وَجِهَادَ عَدُوِّهَا)، هذا من المهام الأساسية للدولة في النظام الإسلامي، جهاد العدو، وحماية المجتمع المسلم من كل أشكال الاستهداف من جانب الأعداء؛ لأن الأعداء يستهدفون الأمة عسكرياً، وأمنياً، واقتصادياً، وثقافياً، وفكرياً… بكل أشكال الاستهداف، فلابدَّ من أن يكون هناك عمل كبير ضمن المسؤوليات والاهتمامات الكبرى والأساسية لحماية الأمة، لبناء واقعها لكي تكون أمةً قويةً، عزيزةً، تتمتع بالمنعة أمام أعدائها، لا تكون أمةً مستضعفةً، ذليلةً، يطمع فيها أعداؤها، لا تكون فريسةً سهلةً يسعى أعداؤها لاستغلالها، وللافتراس لها، يكون واقعها بنفسه من خلال بنائها على المستوى العسكري، على مستوى القدرات العسكرية، والإمكانات العسكرية، وعلى مستوى الروح المعنوية، وعلى مستوى- كذلك- القوة العسكرية فيما يتعلق بالجيش، فيما يتعلق بالتعبئة العامة… فيما يتعلق بكثير من التفاصيل ذات العلاقة التي سيأتي الحديث عنها بشكلٍ تفصيلي.
ما يتعلق أيضاً بحمايتها أمنياً، الأمة تحتاج إلى الحماية الأمنية، العدو يستهدفها بالاغتيالات، بالتفجيرات، يستهدفها بكل وسائل الاستهداف، في زمننا هذا تطورت وسائل الاستهداف، بأكثر من أي زمنٍ مضى، فالأمة بحاجة إلى الحماية على المستوى الأمني، بحاجة إلى الحماية على المستوى الثقافي والفكري والإعلامي؛ لأنها مستهدفة في ذلك بالحرب الناعمة، مستهدفة، يسعى العدو إلى إضلالها، يسعى العدو إلى إفسادها، يسعى العدو إلى تدمير قيمها المعنوية؛ حتى يتمكَّن من السيطرة عليها؛ لأن العدو يعرف أنَّ من أهم عوامل القوة والمنعة، هو العامل المعنوي، إذا كانت الأمة تحمل الإيمان، تحمل القيم العظيمة، تحمل المبادئ العظيمة التي تحصِّنها من أعدائها، تجعلها على المستوى المعنوي والعملي في مستوى أن تتحرك لمواجهة التحديات والأخطار، والتصدي للأعداء مهما كانت التضحيات، مهما كانت المخاوف، مهما كانت الصعوبات، فالعدو يستهدفها، فالأمة تحتاج إلى عمل واسع تحت عنوان الجهاد، الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى هو أساساً لحماية الأمة؛ لأن الجهاد ليس للدفاع عن الله، هو الغني، هو القوي العزيز، ولكنه وسيلة لدفع الشر، لدفع الفساد، لدفع الطغاة والمجرمين، لحماية عباد الله المستضعفين.
(وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)، من المهام الأساسية التي هي متعلِّقة بأداء الدولة في النظام الإسلامي: العمل على إصلاح المجتمع؛ ليكون المجتمع مجتمعاً صالحاً، هذه من المهام الرئيسية، أن يكون هناك عناية كبيرة بالمجتمع، كباراً وصغاراً؛ لكي يكون مجتمعاً صالحاً، مجتمعاً من خلال التربية الإيمانية، من خلال التعليم النافع الصحيح، من خلال العمل الإعلامي، من خلال البرامج العملية الواسعة، يكون مجتمعاً صالحاً، تربى على الإيمان، على القيم الفضلى، والقيم العظيمة، على مكارم الأخلاق، على الاستقامة السلوكية والعملية، هذا ما لابدَّ منه لتصلح حياة المجتمع، لكي يكون مجتمعاً بعيداً عن الرذائل، عن الجرائم، عن المفاسد، التي تشكِّل خطراً عليه، وعلى حياته، وعلى استقراره، وعلى نظامه العام، فلابدَّ من أن يكون هناك اهتمامات واسعة: تتعلق بالتربية الإيمانية، تتعلق بالتعليم النافع الصحيح، تتعلق بالبرامج العملية، تتعلق بالنظام نفسه، الذي يكون نظاماً يساعد على صلاح المجتمع، يتصدى لكل أشكال الفساد، لكل أشكال المنكر، لكل أشكال المؤامرات، التي تستهدف المجتمع لإفساده، أو لتضليله، أو لنشر الرذيلة فيه، أو لنشر الجرائم فيه، والمجتمع أيضاً بحاجة إلى البناء والتأهيل، الإسلام يأخذ بعين الاعتبار العناية بالإنسان لبنائه وتأهيله، ليسمو، لتتكامل له انسانيته، ليؤدِّي دوره في الحياة كمستخلفٍ لله في الأرض على أرقى مستوى، وهذا التأهيل يحتاج إلى مبادئ، إلى قيم، يتربى عليها الإنسان، تترسخ في وجدان الإنسان قناعةً وإيماناً، يحتاج إلى اكتساب مهارات عملية تساعده لكي يكون بهذا المستوى الفاعل في أدائه، وفي النهوض بمسؤولياته، وفي القيام بدوره كخليفةٍ لله في الأرض.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاه السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
الدرس الأول من دروس عهد الإمام علي مالك الأشتر