يأتي الحديث عن الإحسان في القرآن الكريم بهذا الترغيب الكبير، وبهذا التشجيع العظيم جداً: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فالمجتمع على مستوى المجتمع بشكلٍ عام، والإنسان بمفرده أيضاً بشكلٍ شخصي، إذا كان محسناً، فهو يحظى بمحبة الله "سبحانه وتعالى"، وأكرم بهذا من شرفٍ عظيم، هذا مفتاحٌ لكل خير، أنت عندما تحظى بمحبة الله "سبحانه وتعالى"، فهذا بحد ذاته شرفٌ كبير، أعظم وسام شرف يمكن أن يناله الإنسان: أن يحظى بمحبة الله رب العالمين، ملك السماوات والأرض، وأن يكون بذلك في مصاف أوليائه وأحبائه، هذا شرف، شرف عظيم جداً.
البعض من الناس لو عرف أنه يحظى بمحبة ملك من ملوك الدنيا، رئيس، زعيم، مسؤول في مرتبة معينة، شخص له نفوذ معين، شخص له أهمية معينة، وأنه أصبح يحظى بمحبته، وله منزلةٌ عنده؛ لرأى في ذلك شرفاً كبيراً، ولاستشعر من خلال ذلك بالراحة النفسية، والاعتزاز، أصبح يحس أنه شخص له أهمية وله قيمة، وإلَّا لما حظي بمحبة عند ملك، أو رئيس، أو وزير، أو مسؤول، أو شخص له أهمية وقيمة اعتبارية.
أما عندما يكون من تحظى بمحبته، بالمنزلة عنده، بالمرتبة الرفيعة لديه، هو الله "سبحانه وتعالى"، ملك السماوات والأرض، رب العالمين، ذو الفضل العظيم، فهذا هو الشرف الكبير، ولكن لسوء حظنا، ولحقارة أنفسنا، ولضعف تربيتنا الإيمانية، قد لا ندرك قيمة هذه المسألة، أهميتها، قد لا نستشعر مدى عظمتها، ولكن لنسعى من خلال التربية الإيمانية أن نستشعر مثل هذه القيمة العظيمة، والأهمية الكبيرة، هذا أمرٌ تتوق إليه نفوس أولياء الله، يتسابقون، ويتنافسون، ويسارعون، في كل ما يعرفون أن فيه محبة الله "سبحانه وتعالى"، وأنهم سيحظون من خلاله بمحبة الله "جلَّ شأنه"، شرف عظيم، منزلة رفيعة جداً.
وأيضاً ما يترتب على ذلك من رعاية الله "سبحانه وتعالى"، ورعاية خاصة، بأكثر من رعايته الشاملة لكل عباده، فضل الله ورحمته عمَّت كل خلائقه، وكل عبادة، ولكن الرعاية التي هي بمحبة هي رعاية خاصة بأوليائه، يمنحهم فيها ما لا يمنح سائر عباده في رعايته الشاملة، ورحمته الواسعة.
عندما نتأمل مثلاً في واقعنا كصورة تقريبية للذهن، كيف تتعامل مع من تحبه، وماذا يمكن أن تخصه به نتيجةً لمحبتك الكبيرة له، فعلاقتنا بالله "سبحانه وتعالى"، عندما نحظى فيها بمحبة الله، ستأتي فيها الرعاية الخاصة، المزيد من الهداية، والتوفيق، والعزة، ورعاية خاصة في أشياء كثيرة، كما أنها ضمانةٌ للسلامة من عذاب الله "سبحانه وتعالى"، فهي ترغيبٌ كبيرٌ جداً، عندما يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة : 195]، وتكرر هذا في القرآن، أيضاً من مثل قوله "سبحانه وتعالى" في أوصاف المتقين، هو يعرضها في سورة آل عمران، عندما قال "جلَّ شأنه": {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: الآية134]؛ لأن هذه كلها مواصفات هي مواصفات للمتقين، وهي إحسان، فالإحسان ملازمٌ للتقوى، فالإنفاق في السراء والضراء هو لصالح من؟ لصالح المظلومين، لصالح الفقراء، لصالح المحتاجين، لما يخدم عباد الله، لما فيه المصلحة لعباد الله بشكلٍ، أو بآخر.
وكذلك كظم الغيظ والعفو عن الناس، هذا سلوك إحساني رفيع جداً، هذا من السلوك والتعامل بالإحسان، عندما تكظم غيظك تجاه من استفزك، تجاه من زل نحوك من أبناء مجتمعك المؤمن، عندما تعفو، فأنت تمارس هذا السلوك، الذي هو إحسان، وفي نفس الوقت لهذا أهميته الكبيرة في تقليص المشاكل في داخل المجتمع، والحفاظ على وحدة كلمته، للنهوض بمسؤولياته الكبيرة، ولتحركه في المواقف المهمة.
فيختم هذه المواصفات التي عرضها في الآية المباركة بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؛ لأنها كلها إحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وهو من أعظم ما قدمه الله "سبحانه وتعالى" من المرغبات في الإحسان، مما يشجع عليه، ومما يساعد على اندفاع الإنسان إليه.
يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً في القرآن الكريم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: من الآية56]، رحمة الله واسعة، ورحمته في الآخرة، ورحمته في الدنيا، هي أقرب ما تكون إلى المحسنين من غيرهم، يعني: هم من يحظون برحمة الله "سبحانه وتعالى" أكثر من غيرهم، وهم من هم أقرب إلى رحمة الله في كل المواقف، في كل الظروف، في كل المراحل، عند كل التحديات، هم الأقرب دائماً إلى أن يحظوا برحمة الله "سبحانه وتعالى".
يقول "جل شأنه": {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة: من الآية120]، فإحسانك لن يضيع منه شيءٌ أبداً، ولا يخفى على الله منه شيءٌ أبداً، قد لا تلحظ تفاعل مع إحسانك من جانب الناس، أو من جانب بعضهم، أو قد تتصور في بعض الحالات أنه ما قيمة إحساني هذا؟ ما هي ثمرته، ما هي جدواه، قد تتخيل هذا التخيل تجاه ما قد تلاقيه من جفاء من البعض، وإساءة من البعض، واستفزاز من البعض الآخر، ونكران من البعض الآخر، ولكنك لأنك مخلصٌ لله "سبحانه وتعالى"، وتتجه بآمالك نحوه "جلَّ شأنه"، فهو لن يضيع من أجرك شيء، كل ما تقدمه في إحسانك، في التعامل، والعطاء، والاهتمام بأمر الآخرين بكل أشكاله، فهو مكتوبٌ لك عند الله "سبحانه وتعالى"، لك عليه الأجر، لك عليه المقابل الكبير، عندما تكظم غيظك، عندما تعفو، عندما تقدم المال، عندما تحسن بكل أشكال الإحسان، فهذا له أهميته عند الله "سبحانه وتعالى"، أثره في الواقع، قيمته، والله لن يضيع شيئاً من أجرك، كله محسوب، وكله لن يضيع منه مثقال ذرة.
يقول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً عن جانبٍ من جوانب الإحسان الكبيرة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت: الآية6]، يعتبر الجهاد في سبيل الله وفق مفهومه القرآني الصحيح من أعظم الإحسان، من أعظم مراتب الإحسان، ومن أكبر ما تحسن فيه إلى الناس؛ لأن الجهاد في سبيل الله- كما كررنا هذا كثيراً- ليس وسيلةً لحماية الله والدفاع عنه، هو القوي العزيز، والغني الحميد، الجهاد في سبيل الله هو وسيلة لحماية الناس، لدفع الشر عنهم، لدفع الخطر عنهم، لدفع العدوان عنهم، لدفع المجرمين والأشرار عنهم، فهو وسيلة حماية للناس أنفسهم، ووسيلة دفاع عنهم وهو دفع للخطر والشر والإجرام عنهم، منعٌ للمجرمين والأشرار المتسلطين من السيطرة عليهم، والاستعباد لهم، والإذلال لهم، والامتهان لكرامتهم، فهو إحسانٌ كبيرٌ إلى الناس، عندما تجاهد في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، فأنت تحمي مجتمعك من أن يستعبد من المتسلطين الطغاة، من أن يقهر ويذل ويهان من خلال سيطرة الأشرار والمجرمين، أنت تدفع شر العدو عنه، أنت تتصدى لذلك العدو الذي يستهدف مجتمعك، يظلم أمتك، يقهر شعبك، وهكذا يعتبر هذا من أكبر الإحسان إلى الناس، وأنت قد تقدم حياتك في سبيل الله "سبحانه وتعالى"، وأنت تدفع عن شعبك هذا الشر، وعن أمتك هذا الخطر، فيعتبر هذا من أعلى مراتب الإحسان، ولهذا ختمت هذه الآية المباركة بقوله "سبحانه وتعالى": {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
فنجد من مثل قوله "سبحانه وتعالى"، كل هذه المرغبات الكبيرة في الإحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: من الآية148]، وهنا: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، المحسنون وهم يجاهدون في سبيل الله، وهم يقدمون في سبيل حماية أمتهم الغالي والنفيس، حتى أرواحهم في سبيل الله "سبحانه وتعالى" والمستضعفين من عباده، هم يحظون بمعية الله، أن يكون الله معهم، وهذه عبارة مهمة جداً؛ لأنها جامعة لكل خير، إذا كان معهم، فهم الأقوى، هم المنتصرون، هم الذين سيفلحون، هم سيحظون برعايته القوية والعجيبة والشاملة والواسعة...الخ.
فأيضاً نجد من مثل قوله "سبحانه وتعالى": {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } وهو يحكي عن نبيه يوسف "عليه السلام"{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: الآية22]، نبي الله يوسف، وأنبياء الله بشكلٍ عام، من أعظم الصفات البارزة فيهم هي الإحسان، وكان من يعرفه يقول عنه إنا نراك من المحسنين.
هنا يقول الله "سبحانه وتعالى" أن نبيه يوسف "عليه السلام"، وحكى نفس الشيء عن نبيه موسى "عليه السلام" {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} في مرحلة شبابه، {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} آتاه الله حكماً، وآتاه علماً؛ فكان حكيماً، وكان عالماً، ثم يختم هذه الفقرة بقولة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[القصص: الآية14]، ليبيين أنها سنة من سننه "سبحانه وتعالى"، وأنه يعطي عباده المحسنين حكماً وعلماً، هذا ترغيب كبير جداً، فهي وسيلة من الوسائل التي تحصل بها على العلم والحكمة، الإحسان، الإحسان، هذا ترغيب كبير، ويدلنا على أهمية الإحسان، وما ينال المحسنون من الله "سبحانه وتعالى".
فالإحسان هو قاعدة أساسية للتعامل، وروحية مهمة جداً ملازمة للتقوى والإيمان، ويبدأ التعامل على أساس الإحسان والعلاقة على أساس الإحسان، ابتداءً من محيطك الأسري، من والديك أولاً، ولهما خصوصية في هذا التعامل، بالمزيد من الاحترام والتوقير، ألَّا تسيء إليهما، وفي نفس الوقت أن يتجلى إحسانك إليهما في التعامل، والتخاطب، والاهتمام بأمرهما، مثلما قال في سورة الإسراء: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء: من الآية23]، حتى في طريقة التخاطب والقول، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، وتصل أهمية هذه المسألة إلى درجة أن الله "سبحانه وتعالى" نهى عن الإساءة إلى الوالدين حتى المشركين، حتى ولو كانا مشركين، قال "جلَّ شأنه": {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}[العنكبوت: من الآية8]؛ لأنه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله، حتى لو كان الأب، ولو كانت الأم، من يأمرك بما هو معصية لله، لا يجوز أن تطيعه فيما هو معصية لله، ولكن مع ذلك يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: من الآية15]، تبقى الصحبة بالمعروف، تبقى مسألة الإحسان، في الاهتمام بأمرهما، في العناية بهما، في طريقة التعامل المحترمة معهما دون طاعةٍ فيما هو معصية لله "سبحانه وتعالى"، سواءً تجاه ما أمر، أو تجاه ما نهى.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة المحاضرات الرمضانية المحاضرة الرابعة عشرة 1442هـ