ثم على مستوى الانتماء الديني، نجد أن المشكلة التي كانت مشكلة قديمة في واقع أهل الكتاب، وانحرفت بهم- إلى حدٍ كبير- عن منهج الله “سبحانه وتعالى”، وعن شرعه ونهجه، ودينه وتعليماته، أنهم كما قال عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}: علماء الدين لديهم، {وَرُهْبَانَهُمْ}: العبَّاد المتدينين لديهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
هذا يحصل في أمتنا الإسلامية، ليس فقط في الجو السياسي، وفي الاتجاه السياسي، على مستوى دور سلبي لعلماء السوء، وللعبَّاد المنحرفين؛ لأنه عادةً ما يكون هناك علماء سوء، ممن هم بصفة علماء دين، ولكنهم من المضلين، من المنحرفين، من ذوي الأهواء، من ذوي الاتجاهات المنحرفة، وعندما يرتبط الإنسان بهم ارتباطاً أعمى، ويكتفي منه بصفة عالم دين، يكفيه عنده هذه الصفة، أو هيئة كبار العلماء، مثلما يقولون في السعودية (هيئة كبار العلماء)، أو يكتفي الإنسان بصفة ذلك الشخص الدينية، باعتباره من ذوي الشهرة بالعبادة، والسلوك الديني، والالتزام الديني، ثم يأتي لينحرف بك، ليصدك عن سبيل الله، ينحرف بك عن مواقف أساسية يأمر بها الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم.
ونحن نلحظ في زمننا هذا، دوراً سلبياً بارزاً لعلماء السوء، في الانحراف بالأمة عن الإتباع للقرآن الكريم، والتمسك بهدي الله “سبحانه وتعالى”، فنجد البعض منهم يروجون للتطبيع مع إسرائيل، للعلاقة مع إسرائيل، للولاء لأعداء الإسلام، يروجون للولاء لأمريكا، للتحالف مع أمريكا، للتعاون مع أمريكا، وهذا واضح، يقفون مع من يقف في هذا الاتجاه: اتجاه العمالة لأمريكا وإسرائيل، والتحالف المعلن مع أمريكا وإسرائيل بوضوح، يساندونهم، يدعمونهم بالفتاوى، يقدمون لهم الفتاوى التي تساندهم، فيقفون جنباً إلى جنب معهم في نفس الاتجاه، في الدفع بالأمة إلى الولاء لأمريكا وإسرائيل، وهذا انحرافٌ خطيرٌ جدًّا عن منهج الإسلام، عن مبادئه العظيمة، عن قيمه العظيمة، وفي نفس الوقت تدجينٌ للأمة، لتظل تحت هيمنة أعدائها وسيطرة أعدائها، وفي نفس الوقت مصادرة لحقوق الأمة، وظلم رهيب للأمة؛ لأنه يُمكِّنُ أعداءها منها، من هم أعداء حقيقيون واضحون، ولا لبس في عدائهم لهذه الأمة، ثم يتجهون لتمكين أولئك الأعداء من هذه الأمة، في كل مجالات حياتها وشؤون حياتها.
البعض يتجهون أيضاً اتجاها للتجميد لهذه الأمة عن أن تتحرك، أو أن تقف أي موقف في التصدي لأعدائها، عن طريق التثبيط، التجميد، التخذيل، الصرف للأمة عن أن يكون هذا من ضمن اهتماماتها العملية، وهنا نقول: إذا كان هذا خارج إطار مسؤوليات هذه الأمة الدينية، أي: لم يبق عليها مسؤولية أن تتحرك لدفع الخطر عنها، فما هي قيمة الجهاد في سبيل الله؟ هل هو إلا لدفع الخطر عن الأمة؟
الجهاد في سبيل الله ليس عنواناً للدفاع عن الله “سبحانه وتعالى”، بحيث يتصور الإنسان أن هناك خطراً يمكن أن يتوجه إلى الله، وأن الله طلب من عباده أن يدافعوا عنه، لا.
الله “سبحانه وتعالى” هو القوي العزيز، هو القاهر فوق عباده، والمهيمن على السماوات والأرض، والمهيمن على عباده، حياتهم بيده، موتهم بيده، رزقهم بيده، وهو “سبحانه وتعالى” يمكن بفيروس صغير أن يسلطه عليهم فيقهرهم، ويصل بهم إلى حالة الاستسلام التام والعجز التام، أو أن يسلب منهم حياتهم في رمشة عين، في لحظة، في ثانية، في أقل من ذلك، الكل تحت سلطانه وقهره وهيمنته.
الجهاد في سبيل الله هو وسيلةٌ للدفاع عن الأمة نفسها، لدفع الخطر عنها، للحفاظ على حريتها، واستقلالها، وكرامتها، للحفاظ على مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، ومصالحها، وأوطانها، وممتلكاتها، فائدته وثمرته تعود إلى الناس في الدنيا والآخرة: عزة، وكرامة، وحرية، واستقلال.
عندما يعطَّل هذا الفرض العظيم في دوره المهم، والأمة بأمس الحاجة إليه؛ لكي تكون أمةً حرةً، عزيزةً، مستقلة، ويأتي من يساهم في تعطيل هذا الفرض العظيم؛ فيثبط، ويخذل، ويجمد هذا المبدأ وهذا الفرض المهم، ثم يسعى أيضاً إلى صرف اهتمام الناس عنه كلياً، والتثبيط عن أي توجه يدفع بالناس إلى القيام بهذا الفرض العظيم؛ فهذا هو من الأحبار، إن كان بصفة عالم دين، من الأحبار الذين يصدون عن سبيل الله، ممن إذا ارتبطت به، وأطعته في ذلك، فقد اتخذته رباً، أشركت به شركاً عملياً.
وهكذا بقية الفرائض المهمة، والمسؤوليات المهمة، إذا أنت كفاك بأن يكون الشخص بصفة عالم دين، وارتحت بما قدمه لك؛ لأنه توافق مع هوى نفسك، فاعتبرت ذلك مناسباً، واعتبرت أنه أعفاك من مسؤولية، كنت ترى فيها أنها مسؤولية شاقة، فارتحت لذلك، فأنت هنا تورطت في أن جعلت منه رباً، وألَّهته في واقعك العملي، من خلال الشرك العملي، عندما يحرم ما أحل الله، ويحل ما حرم الله، عندما يقدم تشطيبات، ويقدم- في نفس الوقت- حالة تجميد للنصوص القرآنية، لأوامر الله، لتوجيهات الله “سبحانه وتعالى”، من أجل هوى النفس، فهي حالة خطيرة جدًّا.
وكم يأتي أيضاً من علماء السوء، في مسايرةٍ منهم لزعماء الجور، لسلاطين الجور، لملوك الطغيان والانحراف، ما يحل ما حرم الله، فهم يقدمون فتاوى وتسهيلات تواكب التوجهات التي عليها أولئك في انحرافهم، هذا حصل بشكلٍ واضح في حالة النظام السعودي، نرى مسايرة من بعض من يسمون أنفسهم بالعلماء، ليبرروا وليشرعنوا حتى أشياء من الأمور الواضحة جدًّا في تحريمها، فيشرعنون، ويبررون، ويقدمون الفتاوى الداعمة للانحراف، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية31].
في نفس السياق التشريعي يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: من الآية121]، فيعتبرها حالة شرك: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ}؛ لأنكم إن أطعتموهم، وهم يجادلونكم، ويسعون إلى تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، فطاعتكم لهم في ذلك تعتبر شركاً؛ لأنكم أعطيتموهم الحق في التشريع، وفي نفس الوقت لم تتعاملوا مع الله على أنه صاحب هذا الحق، يعني: المسألة ليست فقط أنك أعطيت ذلك الإنسان الحق في التشريع، بل وفي نفس الوقت لم تقبل بالتشريع الإلهي، فكأن ذلك الطرف هو الأحق من الله بالتشريع، وكأن فيما قدمه الحق، وفيما قدمه الله “سبحانه وتعالى” العكس من ذلك، فتعتبر هذه إساءة كبيرة إلى الله “سبحانه وتعالى”.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة المحاضرات الرمضانية المحاضرة الثانية عشرة 1442هـ