الصراع له جوانب إيجابية كبيرة جداً، ومهمة جداً، ولا ينبغي النظرة إليه نظرة سلبية تدفع إلى التنصل عن المسؤولية، والتهرب من التحرك الجاد في التصدي للأخطار، وفي إدارة هذا الصراع بشكلٍ صحيح:
الصراع هو أهم ميدان لتجلي القيم، وتجسيد المبادئ:
إيمانك، ثقتك بالله "سبحانه وتعالى"، أخلاقياتك العالية، تضحيتك، إيثارك، عطاؤك، بذلك، صدقك، وفاؤك، كل القيم المهمة أكبر ميدانٍ يجليها، تجسد فيه هذه القيم والمبادئ، هو ميدان الصراع، الإنسان إذا نزل إلى هذا الميدان بأخلاقيات الإسلام: وفاء، وشجاعة، وشهامة، ومروءة، وعطاء، وتضحية، وإيثار، ووفاء، وصدق، والتزام، بالحق، وكل القيم العظيمة، أهم ميدانٍ لها هو ميدان الصراع، كل الأجواء الأخرى والميادين الأخرى لا ترقى إلى مستواه.
الوفاء، قد تكون وفياً في قضايا معينة بسيطة، لكن هل تكون وفياً أمام مخاطر كبيرة، قد يكون ثمن وفائك فيها أن تضحي بنفسك، أن تقدم مالك، أن تضطر للهجرة من منطقتك، هنا الكثير من الناس لا يرتقي وفاؤهم إلى هذا المستوى.
مصداقية الإنسان أن يثبت على موقفه الحق، حتى لو كان الثمن أن يضحي بنفسه، كثير من الناس لا يصمدون، لا يرتقون في مصداقيتهم إلى هذا المستوى، قد يكونون صادقين في أشياء بسيطة، وعادية، ومن الأمور الطبيعية، لكن أن يصدق في موقفه، في تضحيته، في ثباته، حتى لو كانت النتائج كيف ما كانت.
الإيثار، التضحية، الغيرة على المستضعفين، والتألم لألمهم، والإباء والعزة... كل هذه القيم تترجم على أرقى مستوى بشكلٍ عملي في ميدان الصراع.
الصراع أيضاً هو محك لمصداقيتك مع الله في انتمائك الإيماني:
هل تثق به؟ هل تثق بوعده؟ هل تثق بقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]؟ هل تثق بقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}[الحج: من الآية40]؟ هل تثق بقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]؟ مصداقيتك في تصديق هذه الثقة، في الإيمان بهذا الوعد الإلهي، عندما تتحرك على أساس ذلك؛ أما عندما لا تجرؤ على أن يكون لك الموقف الحق والتحرك الجاد، فهذا يدل على خلل في مدى ثقتك بالله "سبحانه وتعالى".
ميدانٌ للفرز والاختبار:
فرز المجتمع المسلم، اختبار مهم جداً، قد يكون الكثير من الناس من أهل الخير، وما شاء الله عليهم، إذا الأمور والظروف عادية، وقد يتظاهرون بثباتهم على مبادئ هذا الدين وقيمه وأخلاقه، والتزامهم بتوجيهات الله "سبحانه وتعالى"، ولكن- كما قلنا- في ظل الظروف الاعتيادية والطبيعية، يقولون عندنا في المثل الشعبي: [يوم العيد كلاً جيد].
لكن أمام التحديات والمخاطر، يأتي هذا الفرز، ليتبين الثابتون، الصادقون، الأوفياء، مِن مَن ليسوا كذلك، ممن إيمانهم ضعيف، ووعيهم ضعيف، ممن ليسوا أصلاً يحافظون على الحد الأدنى من الانتماء الإيماني، من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ولهذا كان يركز القرآن الكريم على أن يجعل من مسألة الولاء والموقف، والتحرك في سبيل الله، والقتال في سبيل الله، علامةً مميزةً للمؤمن الصادق من غيره، وعملية فرزٍ للمجتمع المسلم؛ حتى يتبين الناس، وكان هذا هو المحك الذي يفرز ويبين ويغربل، هو الغربال الضخم، الذي يغربل المجتمع الإسلامي والساحة الإسلامية، هذه سنة من سنن الله "سبحانه وتعالى"، كما قال في القرآن الكريم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179]، وكما قال "جلَّ شأنه": {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة: من الآية16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا هكذا على ما أنتم عليه، بدون أن يتضح من سيجاهد، من سيكون وفياً في ولائه، لا يدخل في ولائه ولاءات أخرى، ميول أخرى، ارتباطات أخرى، بأعداء الله، بأعداء الإسلام، بأعداء المسلمين، لا بدَّ من هذا الفرز، يعني: أنه لا بدَّ من هذا الفرز، من هذا الاختبار، من هذا الغربال، ولا بدَّ منه في كل زمانٍ ومكان.
يأتي قول الله "سبحانه وتعالى" أيضاً: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، يعني: نختبركم، الاختبار الذي يبين حقيقتكم، يجليكم، يفرزكم، يغربلكم، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد: الآية31]، فيأتي في إطار الصراع هذه الغربلة للمجتمع المسلم، يتبين المجاهدين، الصابرين، الصادقين، الأوفياء، الثابتين، ويتبين المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، ويتبين ضعاف الإيمان الذين لديهم رؤى أخرى واتجاهات أخرى.
من إيجابيات الصراع أنه عاملٌ مهمٌ في النهضة، وعاملٌ مهمٌ في البناء، ووسيلةٌ فعليةٌ لتحقيق التحرر في واقع المجتمع المسلم:
الصراع من متطلباته البناء، إعداد القوة، التوجه لامتلاك الإمكانات لكل عوامل القوة، الصراع يدفع نحو عوامل القوة، نحو اقتناء عوامل القوة، نحو توفير عوامل القوة؛ لأن من متطلبات الصراع: أن تكون قوياً، أن تسعى لتكون قوياً، وهذا ما يسعى له كل الكيانات، كل القوى البشرية، كل المجتمعات البشرية، كل الدول تسعى لتكون قوية، وتدرك حتمية الصراع، والترويج للضعف، وللجمود، وللقعود، والاستسلام، وللانصراف عن التحرك الجاد في إطار الصراع، والعزوف عن عوامل القوة، هذا يسوَّق ويروج حصرياً بين المسلمين فقط؛ أما الأمم الأخرى، والكيانات الأخرى، والدول الأخرى، فكلها تسعى لكي تمتلك بأقصى ما تستطيع القوة، ولتكون في موقع القوة بأقصى ما تقدر عليه وتستطيعه.
لو نأتي إلى زماننا اليوم، أكبر ميزانية عسكرية تسليحية هي لدى الأمريكيين، الإسرائيلي أيضاً يسعى بكل جهد لكي يكون قوياً، والمبدأ الذي يعمل عليه، ويحظى بالدعم الأمريكي على أساسه، والدعم الغربي على أساسه، أن يضمن التفوق العسكري في المنطقة، على مستوى العالم الإسلامي بكل، وهو كيانٌ غير شرعيٍ، فرضوه وزرعوه في أوساط أمتنا وبلادنا الإسلامية، وأرادوا منه أن يكون متفوقاً عسكرياً، وأن يسيطر عسكرياً، وأن يكون هو الذي يسود هذه المنطقة.
ولذلك يجب أن يكون لدينا الوعي الصحيح، الفهم الصحيح؛ لأن حركة التثبيط، والتخذيل، والإرجاف، والتهويل، والتشكيك، وإيهان العزائم، وتقديم الرؤى السقيمة، والأفكار غير الصحيحة؛ إنما يأتي في إطار واقعنا كأمة مسلمة وللأسف الشديد، بقية الدول لديها مشاريع وبرامج وأنشطة؛ لكي تكون قوية، وتتحرك في إطار الصراع بشكلٍ قوي.
فالله "سبحانه وتعالى" عندما أمرنا بالجهاد في سبيله، ليس ذلك ليصيبنا بالمصائب، ويحملنا المشاق والكوارث، هذه رحمةٌ منه بنا؛ لأن حتمية الصراع أمرٌ مفروغٌ منه، لا بدَّ من الصراع، فإذا كان لا بدَّ من الصراع في هذه الحياة، فكيف نتحرك بشكلٍ صحيح، نحظى فيه برعاية الله، ونصره، وتأييده، ووفق توجيهاته وتعليماته، بما يحول هذا الصراع إلى عاملٍ إيجابيٍ وبناء في واقعنا، وميدان لتجسيد المبادئ والقيم والأخلاق، وميدان فرز وغربلة، يبين الناس، وهذا مهم جداً؛ لأن تبيينهم أمر مهم جداً، حتى لهم هم، حتى لهم هم.
ولهذا يقول الله "سبحانه وتعالى" في القرآن الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، لم يكن هناك كفاية- على ما يقولون- بالجهاد بالكلمة، كان لا بدَّ من القتال، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية216]، فالله كتب القتال، الميول والطبيعة البشرية قد تكره القتال، نتيجةً لنظرة مغلوطة؛ أما عندما تتصحح النظرة قد يزول هذا الكره، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، هو خيرٌ لكم، يترتب عليه:
عزكم.
استقلالكم.
حريتكم.
كرامتكم.
تدفعون عن أنفسكم الشر الكبير، الذي سينتج إن تمكَّن عدوكم من السيطرة عليكم.
الشر الكبير هو عندما يسيطر العدو؛ أما ما تقدمه الأمة من تضحيات وهي تتصدى لعدوها، فهي تضحيات مثمرة، محسوبة، لها نتائجها، وقيمتها، وثمرتها، وآثارها الطيبة، وهي مكتوبةٌ عند الله "سبحانه وتعالى".
يقول الله "جلَّ شأنه": {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، فمع الخير في الدنيا: العزة، الكرامة، الحرية، الاستقلال الحقيقي، تجسيد المبادئ والقيم، القوة التي تكتسب في إطار الصراع، هناك ثمن مستقبلي عظيم وأبدي ودائم هو الجنة، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: الآية111]، هذا مع النصر في الدنيا، الله قدم الوعود: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: من الآية7]، المهم هو أن تتحرك بشكلٍ صحيح وفق تعليمات الله وتوجيهاته، وأنت في إطار الحق، وأنت تمتلك القضية العادلة، وأنت تلتزم في أدائك العملي بالتعليمات والتوجيهات التي أمر الله بها "سبحانه وتعالى" في كتابه الكريم، هنا يأتيك من الله النصر، والمدد، والعون، والتهيئة، والتأييد، وتأتي التوفيقات والنجاحات الكبيرة.
أمتنا في هذا العصر في أمسِّ الحاجة إلى أن تستفيد الدروس والعبر من هذه الغزوة، وأن تعزز ثقتها بالله "سبحانه وتعالى"، وأن تدرك جيداً أنه لا بدَّ من التحرك الجاد للتصدي لكل المخاطر والتحديات التي تعاني منها، نحن أمة مستهدفة، أمةٌ مستهدفةٌ معتدً عليها يسعى أعداؤها إلى:
السيطرة التامة عليها.
واستعبادها.
وإذلالها.
وقهرها.
وظلمها.
واضطهادها.
والنتيجة لو تمكن هؤلاء الأعداء: أن تخسر الأمة دينها ودنياها.
فالذي يمكن أن يفيد هذه الأمة: هو التحرك وفق توجيهات الله "سبحانه وتعالى"، مع الثقة بوعده.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة المحاضرات الرمضانية المحاضرة السادسة عشرة 1442هـ