هناك ما تبنى عليه هذه الوحدة، وهناك ما يحافظ عليها، ويساعد عليها، على المستوى النفسي، على المستوى التربوي، القرآن الكريم يقدِّم ما يزكي النفوس، ما يُخَلِّصَها من الشوائب الخطيرة التي تعيق مسألة الأخوّة والتعاون، يُخَلِّص النفس البشرية من الأنانية، من الحسد، من الكبر، من الطمع، من الجشع، يساعد الإنسان على أن تزكو نفسه، وزكاء النفس يجعل نفسية الإنسان قابلةً للألفة، سليمةً من العقد، قريبةً من الأخوّة، ليس فيها ما يصنع الحواجز والعقد من السلبيات الخطيرة.
ثم على مستوى حسن التعامل، وبذل المعروف، والإحسان، والسعي لصلاح ذات البين، والتحلي بالقيم المساعدة على ذلك، فتأتي المواصفات المهمة، التي تبيِّن ما هم عليه فيما بينهم، من مثل قوله "سبحانه وتعالى": {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، إذا ترسَّخت هذه المواصفات العظيمة، إذا كانت الرحمة هي السائدة فيما بينهم، في تعاملهم مع بعضهم البعض، في اهتمامهم ببعضهم البعض، في أسلوبهم في التعامل مع بعضهم البعض، في الاهتمام بشؤون بعضهم البعض، إذا كانت الرحمة هي السائدة، أَلَا ينتج عنها الألفة؟ أَلَا ينتج عنها الأخوّة؟ أَلَا ينتج عنها التعاون؟ بلى، وحالة مستمرة، {رُحَمَاءُ}، تصبح من المواصفات الرئيسية التي يستمرون عليها، ويبنى عليها سلوكهم، وتعاملاتهم فيما بينهم، ونظرتهم تجاه بعضهم البعض، وبذلهم المعروف لبعضهم البعض، ومستوى التعاطف فيما بينهم لكل ما يستدعي حالة الرحمة.
يقول أيضاً عنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[المائدة: من الآية54]، وهذا كذلك قدَّمه كمواصفة من المواصفات الأساسية المهمة، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، فهم فيما بينهم، في معاملاتهم، في تصرفاتهم تجاه بعضهم البعض، يتعاملون بمنتهى التواضع، ليس فيهم الجرأة على الإساءة إلى بعضهم البعض، القسوة على بعضهم البعض، الغلظة على بعضهم البعض، الجرأة بارتكاب الجريمة في الاعتداء على بعضهم البعض، هم بعيدون عن كل ذلك، هم في منتهى التواضع فيما بينهم، ليس عنده الجرأة لا في الإساءة، ولا في الاعتداء، ولا في الظلم، ولا في أي تصرفٍ سيء يصدر من جانبه عمداً تجاه أخيه المؤمن، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
يقول عنهم أيضاً: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[آل عمران: من الآية134]، أيضاً يتحلون بصفة كظم الغيظ، حتى إذا بَدَر من أخيه المؤمن ما قد يزعجه، أو ينفعل منه، فهو لا يبادر فوراً إلى الإساءة، وإلى الرد حتى بأكثر من ذلك، وإلى أن يُخرِج كل ما في قلبه بشكل إساءات، واتهامات، وكلام جارح، إذا اغتاظ، والغيظ هو أشد حالة من حالات الانفعال والغضب، وهي الحالة الخطيرة على الكثير من الناس، الذين إذا عانوا من هذه الحالة، لم يعودوا ينضبطون بأي ضوابط، سيقولون أي كلام، مهما كان جارحاً، مهما كان مسيئاً، مهما كان فيه أيضاً أحياناً افتراءات، وإساءات، واتهامات باطلة، وكلام جارح، فيتحمل الإنسان الوزر الكبير، ويصنع الفجوة التي تزداد يوماً بعد يوم.
فهم قال الله عنهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، بما يفيد أنها صفة يستمرون عليها، ليس بمجرد أي حالة انفعال يبدأ يتكلم، ويسيء، وتحصل من جانبه ردة فعل، وكثيراً ما تكون ردود الأفعال مبالغاً فيها، أكثر ما تكون مبالغاً فيها، فيها اتهامات أكثر، فيها إساءات أكثر، فيها جرح أكثر، القليل من الناس الذين قد ينضبط حتى في مستوى ردة الفعل، عندما يصدر ما يزعجه، أو ما يجرح مشاعره، أكثر ما يحصل هو: الرد المبالغ فيه، الذي يتحمل الإنسان فيه الوزر، وهو يريد أن يشفي غيظه، أو كما يقولون: [أن يبرد غليله]، أن يتكلم، يتكلم، ويسيء، ويجرح، ويقول ما يرى أنه ارتاح بكل ما قد قال، ولكن هذا لا يليق، لا يليق أخلاقياً، ولا إنسانياً، ولا إيمانياً، وهو- في نفس الوقت- مما يورِّط الإنسان في أن يحمِّل نفسه الوزر والإثم، وهذا يحصل للكثير، يحصل للكثير في ردود أفعالهم الظالمة، المشحونة بالافتراءات، والإساءات، والكلام الجارح، والاتهامات الباطلة، والبعض أيضاً قد يضيف إليها أيمان، ويقسم على ذلك، وهذه أمور شنيعة، وأمر رهيب جداً عندما يحلف الإنسان أيضاً اليمين الفاجرة، يضيف إلى ذلك ذنباً على ذنب.
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قد حتى يعفو؛ لأنه يحمل اهتمامات كبيرة، مسؤولية عظيمة، حريص جداً على ما هو أهم، على القضية الكبرى، على مواجهة التحديات الخطيرة، يمتلك الوعي الكافي عن مخاطر الفرقة، وعمَّا تسببه من ضعف، وشتات، وفشل، وتمكين للأعداء، وما ينتج عن ذلك من مخاطر كبيرة جداً على الناس في دينهم ودنياهم.
يقول عنهم، عن المؤمنين: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}[الشورى: من الآية37]، في واقعهم الداخلي تجاه ما قد يبدر مما يستفزهم، مما يغضبهم من كلمةٍ من هناك، أو تصرفٍ من هناك، هم لا يبادرون بكل سرعة، بكل جرأة، بكل شدة، على ردة الفعل المسيئة، أو الجارحة، أو المؤلمة، أو الانتقامية، لا يعيشون حالة العقدة، عقدة الحقد، وعقدة الانتقام تجاه كل شيء، كل شيء، أبسط كلمة، أبسط استفزاز، أبسط مشكلة، ثم تأتي ردة الفعل المبالغ فيها، الانتقامية، الحنقة، التي تعبَّر عن أنَّ الإنسان يحمل في داخله حقداً، كراهيةً، عقداً، ليست نفسيته سليمة في ذلك؛ أمَّا هم فيقول عنهم: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}، ويأتي هذا في سياق نقاء أنفسهم، صفاء أنفسهم، اهتماماتهم الكبيرة بالأمور العظيمة، بالمسؤوليات الكبيرة، وعيهم بخطر الأعداء، وخطر التفريط في مواجهتهم، وعيهم بحجم القضايا، لا يجعلون من الحبة قبة، يساوي أي إشكالية، أي قضية، أي سوء تفاهم، بأكبر مشكلة، البعض من الناس يعني أبسط قضية عنده أكبر من المشكلة الفلسطينية، أكبر من العدوان الجاري على البلد، أكبر من أي قضية أخرى، انفعاله من ذلك الأمر الذي استفزه، غضبه، توتره الشديد، انزعاجه الشديد، ردة فعله، اهتمامه الكبير، يفوق كل أمرٍ آخر، هذا يدل على حالة نفسية غير سليمة، حالة نفسية صغيرة، لا تحمل الاهتمامات الكبيرة، المشاعر الإيمانية، لا تعطي قيمة للتوجيهات الإلهية..
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة المحاضرات الرمضانية المحاضرة الحادية والعشرون 1443هـ