الله سبحانه وتعالى في هذا النص المبارك ينهى تحريماً عن قرب مال اليتيم إلَّا بالتي هي أحسن، فهو هنا يحرِّم كل أشكال الخيانة، كل العمل الذي دافعه الطمع للاستغلال الحرام لمال اليتيم، سواءً للأكل منه بغير حق، لأخذ شيءٍ منه، أو مصادرة جزءٍ منه، أو استبدال شيءٍ منه بما هو أدون، أو بمصادرته بكله، ويشمل أي حقٍ من حقوقهم.
اليتامى: هم فئة من أبناء المجتمع تحتاج إلى الرعاية، اليتيم: هو الذي فقد أباه، إما بالشهادة، أو الوفاة... أو بأي حالٍ من الأحوال، المهم أنه لم يعد والده على قيد الحياة في هذه الدنيا، سواءً كان عن طريق قتل، أو شهادة، أو وفاة، فاليتيم في مرحلة الطفولة- ويستمر يتمه حتى يبلغ، حتى البلوغ- بحاجة إلى الرعاية والحنو والحماية؛ لأن والده كان هو الذي يقوم بكل هذه المستلزمات، بكل هذا الدور الأبوي، يقوم بحماية ابنه، بحماية طفله، سواءً كان هذا الطفل ابناً أو بنتاً، يقوم بحمايته، برعايته، بالحنو عليه، بالعطف عليه، بالاهتمام به، رعاية وحماية؛ لأنه لم يعد والده على قيد الحياة في هذه الدنيا، ترك فراغاً كبيراً في حياته في إطار هذا الدور الأبوي.
والبعض قد يستغلون غياب الأب، غياب هذا الدور الأبوي في الحماية والرعاية، ويتجهون إلى ظلم اليتيم، هناك مسؤولية كبيرة جداً في القرآن الكريم يؤكِّد عليها كثيراً تجاه اليتامى، وتأتي التوصيات بشكلٍ متكرر في القرآن الكريم تجاه اليتامى، بالحث على إكرامهم، بالحث على حسن رعايتهم، بالحث على حمايتهم، وصون حقوقهم، والحفاظ على ممتلكاتهم، ويتكرر هذا في القرآن الكريم كثيراً، وبعبارات فيها تأكيد، تأكيد كبير.
المسؤولية تجاه اليتامى تبدأ من محيطهم الأقرب، ممن لهم صلة بهم على مستوى الرعاية الأسرية، والمسؤولية الأسرية، تبدأ من الأخ، أو من الابن الأكبر لليتامى، إذا كان هناك أخ أكبر للصغار، تبدأ المسؤولية عليه ابتداءً، إذا كان هناك أيضاً إذا لم يكن هناك أخ أكبر وهناك عم مثلاً، أو جد قبل العم، تبدأ المسؤولية من المحيط الأقرب على المستوى الأسري، ثم تمتد هذه المسؤولية في إطار المجتمع، في العناية باليتامى على المستوى التربوي، وعلى المستوى المادي، وعلى مستوى حسن الرعاية، وحسن التعامل، والإكرام، والاحترام، وتعويض الفراغ الكبير الذي تركه الأب عادةً، في الحنو، والشفقة، والرحمة، والعاطفة، والإكرام، ولهذا يأتي التوبيخ للمجتمع الجاهلي في قول الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}[الفجر: الآية17]؛ لأن العلاقة مع اليتيم يجب أن ترقى إلى مستوى الإكرام، الإكرام سواءً على مستوى التخاطب، التعامل، الرفع من معنوياته، الرفع من معنوياته، هذه نقطة هامة جداً، أو على مستوى العناية به على المستوى المادي.
في هذا الزمن كما في مراحل كثيرة من التاريخ، يكثر الأيتام مع الأحداث الكبيرة، مع ما تواجهه الأمة وتعانيه من هجمة شرسة من أعداء الإسلام والمسلمين وعملائهم، وما يتسببون به من إراقة الدماء، وسفك الدماء، وقتل الأبرياء بأعداد كبيرة، هذا ينتج عنه وجود الكثير من اليتامى، الذين يجب أن يلتفت إليهم المجتمع جيداً؛ باعتبارهم وصية الله، وأمانة الله سبحانه وتعالى، وأن يدرك المجتمع بشكلٍ عام مسؤوليته تجاههم؛ لأنه لا بدَّ من تعاون الجميع، إضافةً إلى محيطهم الأقرب، أن يكون هناك استشعار لحجم هذه المسؤولية، وأهمية هذه المسؤولية، ثم تقوى الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بالحفاظ على ممتلكات اليتامى.
وللأسف الشديد قد يأتي الظلم من محيطهم الأقرب، قد يكون من يمارس مثل هذا النوع من الظلم في أكل مال اليتامى، في بعض الأسر قد يكون هو الأخ الأكبر، يعتبرها فرصةً ذهبية، ثم يتجه إلى أن يقتطع حصةً أكبر، أو يختار أيضاً من أموالهم أماكن، إما مزارع ذات أهمية أكثر، أو أماكن، أو قطعاً من الأرض إذا كانت على مستوى الأراضي، أو على مستوى النقد، قد يقتطع كذلك... أو غير ذلك؛ لأن المال يشمل كل جوانب المال، سواءً العقارات، الأراضي، المزارع، النقد... غير ذلك.
أحياناً العم قد يتجه كذلك لتصرف من هذا القبيل، أو على مستوى أبعد في المحيط الأسري، والبعض من أبناء المجتمع كذلك، البعض من أبناء المجتمع على مستوى القرية الواحدة، أو المنطقة الواحدة، قد يتجه بدافع الطمع لارتكاب هذه الجريمة، وأحياناً قد يكون في إطار الدور الذي ظاهره الرعاية والعناية بمال اليتيم، من خلال أن يقوم الإنسان وكأنه مهتم بمال اليتيم، وقد يهتم فعلاً، ولكنه يستغل هذا الدور الذي يقوم من خلاله بالعناية بمال اليتيم، بأخذ أشياء كثيرة فوق المعروف، أو وهو مستغنٍ لا حاجة له إلى ذلك، كل هذا من الاستغلال الحرام، السيء، وظلم الضعيف هو من أسوأ وأبشع أنواع الظلم؛ لأنك هنا تظلم طفلاً يتيماً صغيراً، تستغل ظروفه الإنسانية، وقد فقد الحماية التي كان يقوم بها والده في حمايته، وحماية ممتلكاته، فتكبرك وتعديك وظلمك لطفلٍ صغيرٍ يتيمٍ ضعيفٍ، من أقبح وأبشع وأسوأ أنواع الظلم، حالة من الانحطاط، حالة من الدناءة، من التكبر، أن تنزل إلى ظلم طفل صغير؛ لأنك استقويت عليه، واعتبرته صغيراً وطفلاً، يعتبر جرماً عظيماً.
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، والحالة التي هي أحسن: هي رعاية ماله، العناية بالحفاظ على ممتلكاته، وصون ممتلكاته، العناية بالمال، والعناية بنموه، ما كان من مثل مزارع أو نحواً من ذلك، يحتاج إلى الحفاظ على نمائه، مع صيانته والحفاظ عليه.
{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، حتى يبلغ اليتيم البلوغ الشرعي، الذي يمتلك فيه النضج العقلي، والقدرة البدنية للقيام بمسؤولياته هو تجاه ماله، وحينها ليس لكم أي ولاية عليه، ويبقى هو بشكلٍ مستقل المعني وصاحب الولاية على ممتلكاته.
في نفس السياق أتت آياتٌ قرآنيةٌ أخرى في سورٍ أخرى، من بينها في سورة النساء، وهو يؤكِّد على العناية بالحفاظ على ممتلكاتهم، وإعطائهم ممتلكاتهم، والتحذير من أخذ شيءٍ منها، أو نهب شيءٍ منها، أو مصادرة شيءٍ منها، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}[النساء: من الآية2]، من خلال أن تستبدل شيئاً من مالك، وتأخذ من ماله؛ لتغالطه، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}[النساء: من الآية2]، من خلال أن تصادر من ماله شيئاً تأكله، أو تصادر كل ماله، {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النساء: من الآية2]، إثماً فظيعاً، شنيعاً، قبيحاً، دنيئاً، خسيساً، فهو وزر وذنب فيه دناءة، فيه انحطاط؛ لأن الإنسان تكبر وطغى وتجبر على طفل صغير يتيم مسكين.
يقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}[النساء: من الآية10]، نعوذ بالله، هذا وعيد شديد جداً، من يأكل أموال اليتامى ظلماً، بمصادرة، أخذ بغير حق، فله هذا الوعيد الشديد، الوعيد بجهنم، الوعيد بعذاب الله، وسيأكل في المقابل من زقوم جهنم، من عذابها، من جحيمها، {نَارًا}، تستعر النار في بطنه، حتى ليقال: أنَّ من علاماتهم يوم القيامة: أنَّ النار تشتعل في بطونهم، وتخرج من أفواههم؛ لأنهم كانوا يأكلون أموال اليتامى، جريمة رهيبة جداً، وما أكبر خسارة من يفعل ذلك! سينسى كل ما كان قد ارتاح في هذه الدنيا؛ لأنه أخذه على اليتيم ومن أموال اليتيم، وبطنه يستعر، يحترق بجحيم النار والعياذ بالله، وهو يأكل الزقوم الذي يغلي في البطون كغلي الحميم، وهذه جريمة كبيرة؛ لأنها من كبائر الذنوب التي يمكن أن يدخل بها الإنسان- بل حتماً سيدخل بها من يفعل ذلك، من يرتكب هذه الجريمة- إلى النار، ولا ينفعه أي عملٍ آخر: لا تنفعه صلاته، لا ينفعه صيامه، لا ينفعه أي عملٍ صالح، ولا يقبل منه أصلاً، ويكون مصيره إلى جهنم والعياذ بالله، {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء: من الآية10]، هذا ختام الآية: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، فهم من أهل الكبائر الموجبة للدخول في جهنم، التي تصل بمرتكبها إلى النار والعياذ بالله، ولا ينفعه أي عملٍ آخر، فهذا وعيد شديد جداً.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة المحاضرات الرمضانية، بتاريخ 28 رمضان 1442هـ