الموقف المتمثل إمَّا بالجحود، أو الرفض العملي، لأمر من أمور الدين الإسلامي المهمة، العظيمة، الكبيرة، ركن من أركان الإسلام، أو مبدأ مهم وعظيم من مبادئ الإسلام، لا يعتبر حينما يكون موقفاً سلبياً سيئاً: إمَّا جاحداً، وإمَّا رافضاً على مستوى العمل؛ لا يعتبر موقفاً هيناً عند الله، وموقفاً عادياً عند الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بل يعتبر موقفاً خطيراً؛ ولهـذا يأتي التصنيف عند الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" لخطورة هذا الموقف بهذه التسمية: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]... وغير ذلك؛ لأن بعض الأمور- فعلاً- الجحود بها، أو الرفض العملي لها، يمثِّل إساءة كبيرة إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ودلالةً على اختلال إيماني لدى الإنسان، اختلال في إيمانه بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وفي جوهر هذا الدين الإلهي، وهو: التسليم لله، والقبول بأمر الله، بتوجيهات الله، بتعليمات الله، بما قرَّره الله، بما فرضه الله، بما شرعه الله، وهي الحالة الخطيرة بالنسبة للإنسان، إذا كان في اتِّجاه مباين لها، حالة انحراف خطير على الإنسان.
هذا كله يبيِّن أهمية المسألة؛ ولـذلك الرسول "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" حينما أتاه هذا الأمر العظيم، بالبلاغ بأمر له هذه الأهمية الكبيرة، الواضحة، والحساسة في نفس الوقت، في غاية الحساسية عند الناس، وهي- فعلاً- قضية لا يوجد مسألة أكثر حساسية منها عند الناس كمجتمعات واتِّجاهات، غير الحسابات الشخصية لدى كل إنسان لوحده، كمستوى عام يعني لدى الناس، وهذا سيتَّضح.
رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" اتَّجه لتنفيذ أمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهو الذي له مرتبة عالية جدًّا بين رسل الله وأنبيائه، في أدائه الرسالي، في تبليغه لرسالات الله، في قيامه بمهامه ومسؤولياته الرسالية: في تبليغ رسالة الله، في إقامة دين الله، في العمل على هداية عباد الله، في إيصال هدى الله إلى الناس؛ على أرقى مستوى، له موقع متميِّز بين كل الرسل والأنبياء، هو متقدِّم، وهو راقٍ في مستوى هذا الأداء العظيم؛ ولـذلك هو كان يعرف أهمية كل مسألة، ويعطيها ما تستحقه من الأهمية:
- في كيفية إيصالها إلى الناس.
- في طريقته في التبليغ.
- في أسلوبه.
- وفي بيانه؛ لأن من ضمن مسؤولياته المهمة: البلاغ المبين، هذه من مسؤولياته: أن يُبَلِّغ بلاغاً مبيناً، يعني: واضحاً، لا لُبس فيه.
ولـذلك اتَّجه رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ" إلى تنفيذ أمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والإبلاغ بهذا البلاغ العظيم، الوقت آنذاك- حين نزول هذه الآية المباركة على رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"- كان وقت الظهيرة، في حرارة الشمس الشديدة، في أشد حرارة الشمس، والمنطقة بنفسها حارَّة (منطقة الجُحْفَة)، الموضع الذي هو فيه حار جدًّا ونزل فيه.
فرسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" اتَّجه لتنفيذ أمر الله، وتبليغ ما أمره الله بتبليغه، بطريقةٍ تُشعِرُ كذلك بأهمية ما يريد أن يُبَلِّغه للناس، وتدل على ذلك دلالةً واضحة، فهو أعلن عن اجتماعٍ طارئٍ وعام، مطلوب من كل الحجيج أن يحضروا في ذلك الاجتماع الطارئ، والنداء لتلك الاجتماعات الطارئة، التي هي في غاية الأهمية، كان يُنادى لها بنداء (الصلاة جامعة)، فنودي بهذا النداء العظيم للاجتماع الطارئ، وأمر أن يتم إعادة من قد تقدَّموا من الحجيج ليعودوا إلى حيث هو، والانتظار للمتأخرين ليصلوا؛ حتى اجتمع كل الحجيج الذين كانوا ذاهبين من الحج، فهو أمر الذين كانوا قد تقدَّموا بالعودة، وعادوا، وانتظر للمتأخرين حتى وصلوا؛ حتى تكامل الجمع.
رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، أمر بتنظيف مكان تحت (دوحات) أشجار، وعادةً ما يكون تحتها الشوك، أَمَرَ؛ فَقُمَّ ما تحتهن، يعني: نُظِّفَ ما تحتهن من الشوك ونحوه، وأمر بأن تُرَصّ أقتاب الإبل، وهي كثيرة؛ لأن الجمع عشرات الآلاف من الحجاج؛ فَرُصَّت أقتاب الإبل؛ من أجل أن تكون بشكل مِنْبَر مرتفع وعالٍ، حينما يصعد من فوقه يشاهده الجميع، ويرونه ويسمعونه، وصلَّى بالحجيج صلاة الظهر.
بعد أن أكمل صلاة الظهر، استدعى علي بن أبي طالب "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وصعد وهو معه فوق أقتاب الإبل التي كانت قد رُصَّت، ثم خطب خطبةً عظيمةً ومهمة، والجميع يصغون له؛ لأن الأجواء كلها أجواء استثنائية، اجتماع طارئ، لأمرٍ مهم، وذكر لهم هو قبل أن يبدأ حتى بخطابه، أن الله أمره بإبلاغ أمرٍ مهم، وقرأ عليهم الآية المباركة، وخطب خطبته العظيمة والمهمة؛ حتى وصل إلى الموضوع المهم، وهو: محتوى البلاغ الذي أمره الله بإبلاغه.
في تلك الخطبة، أخبرهم من جديد أنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا، وهذا- كما قلنا- ليس مجرَّد وداع عاطفي؛ بل ليربط المسألة بما بعدها، بالبلاغ نفسه، البلاغ له علاقة بالموضوع، ورغم أنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا، قائلاً: ((أَلَا وَإِنِّي يُوْشِكُ أَنْ أُفَارِقَكُم))، هذا خبر مُحزن جدًّا ومؤلم؛ لأن رحيل رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ"، وإن كان قد أتمَّ الرسالة وبلَّغ، وأتى بالقرآن الكريم، ويبقى القرآن بين هذه الأُمَّة، والتعليمات العظيمة التي بلَّغهم بها رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ"؛ إلَّا أن غيابه نقصٌ لا يُعَوِّضه شيء، نقص كبير جدًّا على الأُمَّة.
((أَلَا وَإِنِّي يُوْشِكُ أَنْ أُفَارِقَكُم))، يعني: على مُقْرُبة، مقربة من الرحي (يُوْشِك)، ((أَلَا وَإِنِّي مَسْؤُول، وَأَنْتُم مَسْؤُولُون))، وفعلاً كما قال الله في القرآن الكريم: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:6]، يعني: في يوم القيامة، الله يسأل الرسل، ويسأل الأمم أيضاً، ((أَلَا وَإِنِّي مَسْؤُول، وَأَنْتُم مَسْؤُولُون، فَهَل بَلَّغْتُكُم؟ فَمَاذَا أَنْتُم قَائِلُون؟))، لنلحظ هنا، كل هذا التعبير هو يدل على تركيز رسول الله "صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ" على إقامة الحُجَّة بشكلٍ كامل.
فقام من كل ناحية من القوم مجيب؛ لأن الاجتماع كبير جدًّا، عشرات الآلاف من الحجيج، يقولون: (نَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْله، قَدْ بَلَّغتَ رِسَالَاتِه، وَجَاهَدتَ فِي سَبِيلِه، وَصَدَعت بِأَمرِه، جَزَاكَ اللهُ خَيرَ مَا جَزا نَبِيّاً عَن أُمَّتِه)، وهذا شهادة له، شهادة له بالإبلاغ، وبما هو أكثر من الإبلاغ، وهو مسألة: العمل على إقامة دين الله، وهداية عباد الله، وإرساء دعائم الإسلام... وغير ذلك.
ثم واصل خطبته، إلى أن قال: ((يَا أَيُّهَا النَّاس، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَولَى المُؤمِنِين، أَولَى بِهِم مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَن كُنْتُ مَولَاهُ، فَهَذَا))، وأخذ بيد عليٍّ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" ورفعها مع يده، ((فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه، وَعَادِ مَنْ عَادَاه، وَانصُر مَنْ نَصَرَه، وَاخذُل مَنْ خَذَلَه))، واستمر في خطابه، مؤكِّداً أهمية الموضوع، ومستشهداً عليهم بالبلاغ، قائلاً لهم، وهو يكرر الاستشهاد عليهم بأنه قد بلَّغهم: ((أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟))، وهم يجيبونه: (اللَّهُمَّ بَلَى)، فيقول: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَد))، ويكرِّر ذلك لثلاث مرَّات: ((أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟))، وهم يقولون: (اللَّهُمَّ بَلَى)، فيقول: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَد))، ويحرص مع ذلك على أن يصل هذا البلاغ إلى مجتمعاتهم وقبائلهم، وأن يستمر في الأُمَّة جيلاً بعد جيل؛ ولهـذا قال: ((فَليُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِب))؛ لأنه مطلوب أن يصل هذا البلاغ إلى الآخرين، فنزل قول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3].
الآية المباركة في الأمر بالبلاغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67]، ونص خطبة الغدير، الخطبة بكلها، وفي خلاصتها وجوهرها وأهمها: النص المتعلِّق بمسألة الولاية: ((يَا أَيُّهَا النَّاس، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَولَى المُؤمِنِين، أَولَى بِهِم مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَن كُنْتُ مَولَاهُ، فَهَذَا عَلِيٌّ مَولَاه، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاه، وَعَادِ مَنْ عَادَاه، وَانصُر مَنْ نَصَرَه، وَاخذُل مَنْ خَذَلَه))، ثم النص القرآني المبارك، في كمال الدين وتمام النعمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3]، كل هذا يدل على الأهمية الكبرى لموضوع الولاية، والواقع يشهد على ذلك، واقع المسلمين يشهد على الأهمية الكبيرة لذلك.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
من كلمة السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي في مناسبة يوم الولاية 1446هـ