ولهذا لما جعلوا الله غائباً اتجهوا ليـبحثوا عن وجوده هو، عن هل هو موجود أو لا، فيأتوا إلى ترتيب مقدمات معينة، تبدأ بالحديث عن [أن هذه الأشياء وجدناها مُحدَثة؛ لكونها ملازمة لعلامات الحدوث، إذاً فهي مُحدَثة، إذاً هناك من هو مُحْدِثٌ لها، إذاً هناك مُحدِث]، وعلى هذا النحو يتحركون فيجعلون الله سبحانه وتعالى بالنسبة لنا بحاجة إلى أن نستدل على وجوده بأي شيء من مخلوقاته، بينما هو يصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه: {الظَّاهِرُ}، هو أظهر من مخلوقاته، هو أظهر من مخلوقاته، هو من غَرَزَ في نفوس عباده معرفته, المعرفة الجملية, لم يغب اسمه عن ذهنية البشرية.
والقرآن الكريم أكد هذه، وهو يذكر لنا كيف كان الأنبياء يدعون أممهم إلى الله، وكيف كانت تلك الأمم إنما تنازع في ما يتعلق بالوحدانية، أنها غير مستعدة أن تتخلى عن الآلهة الأخرى، لينفرد الله هو وحده بعبادتهم له، وينازعوا الأنبياء في أنه بعد لم يثبت لديهم أو أنهم يريدون أن يثبت لديهم بأنهم رسلٌ من الله، ليس هناك إشكالية حول وجود الله، حتى ولا عند الكافرين {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف:9) {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: من الآية87) ولئن سألتَ مَن؟ سألت الكافرين.
بل يقول الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم (صلوات الله عليهم): ((أن الله غرَزَ معرفته في نفوس عباده من الملائكة والإنس والجن)) حتى قال أيضاً: ((بل والطير والحيوانات الأخرى كلها تعرف الله)).
وكل ما تشاهده، كل ما تشاهده أنت في واقعك تشهد بسبق خالقه، بسبق صانعه في فطرتك قبل أن تنطلق لترتب مقدمات كلامية منطقية: [هذا مُحْدَث فلا بد له من مُحْدِث، فثبت أن له مُحْدِثاً] من أين قلت: [مُحدَث]؟ أليس بعد أن شهدتَ بأن فيه علامات التدبير والخلق، إذاً أنت تشهد أولاً، أنت تشهد أولاً في فطرتك بوجود الخالق، وتشهد بسبق الخالق، وإلا لما عرفتَ أن هذا فعل، ولما انطلقت لترتب هذه المقدمة.
الله سبحانه وتعالى هو أظهر من كل مخلوقاته؛ ولهذا - في ما أفهم والله أعلم - لم أجد في القرآن الكريم آية واحدة - على الرغم مما ذكره الله سبحانه وتعالى من مظاهر قدرته ونعمته وحكمته و.. إلى آخره - أن ذكر شيئاً منها بعبارة: [أليس ذلك يدل على أنني كذا؟]، لا تجد هذه في القرآن الكريم، ليس هناك آية تقول: [أليس ذلك دليل على أني قادر؟ أليس ذلك دليل على أني حي؟ أليس ذلك دليل على أني حكيم؟ أليس ذلك يدل على أن لها خالقاً، يدل...؟] لم ترد هذه إطلاقاً؛ لأنه هو {الظَّاهِرُ}، هو {الظَّاهِرُ}، هو الذي فطر النفوس على معرفته، بل لم يأتِ أحد ليسمي صنماً باسمه، أو يسمي بشراً باسمه، أو يسمي شيئاً باسمه، الذي هو اسم لذاته - سبحانه وتعالى - المقدسة: [الله]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (مريم: من الآية65) كان المشركون يسمون الآلهة [هُبَل، اللاَّت، العُزَّي، وُد، سُواع، يَغُوث، يَعُوق].
الله معروف لدى البشر أنه [الله]، هو الإله، هو الذي خلق السموات والأرض، هو الذي خلقهم، هم يعرفون هذه، لم يأتوا ليسموا صنماً آخر باسمه أبداً، هو إله، بل هو إله مقدس لدى البشر، إله مقدس لدى البشر في كل مراحل البشرية. بل يقول أحد الكتاب أيضاً: بأنه في هذا العصر - في استبيان - ظهر بعد أن اُكتشِفت مناطق بدائية، قُبائل بدائية، وعرف بأن الله معروف لديها، قُبائل بدائية في مجاهيل أفريقيا وفي مناطق أخرى في هذا العالم، ولا يزال بعضهم شبه عُراة، والله معروف لديهم.
هو {الظَّاهِرُ} لهذا كان هناك تأثير سلبي وسيئ جداً لترتيبات المتكلمين المنطقية، لمقدماتهم المنطقية حيث جعلونا نحتاج نحن - حتى نعرفه - أن نستدل عليه بأي شيء من هذا لنعرف وجوده من حيث المبدأ: أن هناك إلهاً, أن هناك [الله].
كيف وهو الذي قال سبحانه وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس:7-8) كيف يلهمها فجورها وتقواها ولا يلهمها معرفته، ولا يفطرها على معرفته، وهي من أهم، من أهم ما يمكن أن تسير بالنفس نحو الهدى، وتصرفها عن الفجور - معرفته سبحانه وتعالى -؟! هل مجرد أن تهتدي إلى ما هو تقوى وإلى ما هو فجور أهم من معرفته سبحانه وتعالى؟ هو قال: أَلْهَمَهَا {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فكيف لا يلهمها ما هو الأساس في أن تنطلق في التقوى وتبتعد عن الفجور، وهو معرفته سبحانه وتعالى؟!
فالمعرفة الجملية لدى البشر قائمة، ومترسخة في ذهنيتهم، بما فطر نفوسهم عليه، وبواسطة رسله المتعاقبين جيلاً بعد جيل، وكتبه التي أنزلها إليهم، فلم يغب ذكره عن ذهن البشرية، ولا عن مسامعها، فهو {الظَّاهِرُ}.
يجب أن نلغي أن نلغي تماماً استخدام عبارات المتكلمين: [الغائب..الغائب، قياساً للغائب على الشاهد، قياساً للغائب على الشاهد] وأشياء من هذه.
وأول ما يرسخون في نفسيتك: أنك تقوم تبحث عمن هو الذي أسدى إليّ هذه النعمة، نُبحث هنا وهنا، نجد أن هذه النعم لها محدث، إذاً لها محدث. تمام اتفقنا. مَن هو؟ بقي الإشكال: مَن هو؟ لم يستطيعوا أن يجيبوا عليه (من هو؟) لأن غاية ما يمكن أن تحصل عليه من خلال تلك المقدمات هو ماذا؟ أن لها صانعا. لا بأس لها صانع، لكن مَن هو؟ وأي دليل نظري ترتبه على هذا النحو يمكن أن يوصلك إلى الله؟ لا تجد.
لا يوصلك إلى الله إلا فطرتك، وإلا أنبياؤه وكتبه؛ ولهذا نجد: [وهو الله] هم يقولون هكذا: [فدل على أن لها محدثا وهو الله تعالى] القفزة هذه ليست نتيجة منطقية لترتيب المقدمات هذه أبداً، نتيجةٌ منطقية هو أن لها محدث، لكن قولك: [وهو الله] من أين أتيت بها؟ إنما من خلال أنبيائه، من خلال كتبه، من خلال ما فطر النفوس عليه؛ لأن [وهو الله] هو يأتي بعد سؤال: إذاً فمن هو هذا المحدث؟ من هو؟ رتب لي مقدمات توصلني إلى أنه هو الله، الله.
[طَيْبْ] الله: هو اسم للذات المقدسة، عَلَم للذات المقدسة، الله سبحانه وتعالى، وهو الأساس لبقية أسمائه، تأتي بقية أسمائه في مقام الثناء بعد أن يكون الأساس الذي تضاف إليه وتستند عليه هو اسمه سبحانه وتعالى: الله.
فأي متكلم يستطيع أن يوصل بتسلسل استدلالاته المنطقية إلى الإجابة على: من هو؟ ثم ليقول لي: هو الله.
الله إنما أتى من خلال الفطرة التي فطر النفوس عليها، ومن خلال أنبيائه ورسله، وليس عندما تقرأ في [العقد الثمين] أو تقرأ في [الأساس] أو تقرأ في كتب أخرى من هذه (كتب المتكلمين المصبوغة بأساليب المعتزلة وعباراتهم) فيقول لك: وهو الله، وهو الله، وهو الله... الخ.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
(الدرس السادس)
آيات من بداية سورة الحديد
ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي / رضوان الله عليه.
بتاريخ:10من ذي ال قعدة1422 هـ
الموافق 23/1/2002م
اليمن – صعدة.