عندما نأتي إلى كتب علم الكلام ونجدها تتحدث عن قضايا محدودة وبأسلوب محدود ومناقشات [طويلة عريضة] حول قضايا أفعال الإنسان: هل هي منه أم هي من الله؟ حول قضايا من هذا النوع، سببها أن الجميع ابتعدوا عن القرآن الكريم فلم يكن لله في نفوسهم العظمة، العظمة التي تجعل كل مسلم ينـزه الله تلقائياً عن أن يقضي بالباطل، أو يقدر المعاصي، أو يريد الظلم، أو يريد القبائح، أو يخلقها أو يقدرها أو يسيَّر إليها.
القرآن الكريم تكفل بهذا تلقائياً، بينما الغوص في خضم تلك القواعد تخرج منها وفي رأسك من الإشكاليات ما يجعلك تتأوه وتتأسف على ما فاتك من فطرتك السليمة، ومعرفتك البديهية التي كان بالإمكان لو بقيت سليمة، وقدمت أمام القرآن الكريم لكان ما يحصل من خلال القرآن الكريم هو ما ينسجم معها، ويخلق الطمأنينة، ويزكي النفس، ويطهر القلب، ويوسع المعرفة، ويخلق الخشية والعظمة والخوف والتقى والإيمان وغير ذلك من المعارف.
لذلك كان من المعروف أن المتكلمين هم من عرفوا بالخشونة حتى قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام ـ لا أدري حكاية عن غيره أو قالها عن نفسه ـ :(أنه لم يُعْرَف أن متكلماً خشع) أي أحد من علماء الكلام أولئك الذين ينشغلون بتلك العبارات، والتي معظمها مصبوغة بمنطق الفلاسفة ومتأثرة بأساليب الفلاسفة من الإمامية وغيرهم. وتلحظ أن هناك تقبُّلاً للمعرفة من نافذة واحدة وبشكل محدود، معرفة الله تحت عنوان: هو تحصيل عقائد صحيحة فيما يتعلق بالأفعال بالذات والصفات ـ كما يقولون ـ فيما يتعلق بأفعال الله وبأفعال العباد.
لكن القرآن الكريم يأتي للإنسان من كل الجهات وهو يعرفه بإلهه، وهو يرسخ في قلبه المعرفة، تلك المعرفة التي تخلق في نفسه خشيةً وخوفاً وثقة عظيمة بالله، وتوكلاً عليه، وحباً له، ورغبة في الحصول على رضاه.
لم يعرض المتكلمون مسألة النعم الكثيرة التي أسبغها الله على عباده كأسلوب من أساليب معرفته سبحانه وتعالى.
لم يقدموا الحديث عن شدة بطشه، وعن سعة رحمته فيما يعِدُ به أولياءه، لم تقدم كأسلوب من أساليب المعرفة، نوقشت هناك لوحدها وبمفردها عن واقع الإنسان بالنسبة لها. هل هناك شفاعة لأهل الكبائر أم ليس هناك شفاعة فيما يتعلق بقضايا اليوم الآخر؟ نوقشت هذه فيما يتعلق بالأبحاث حول اليوم الآخر وكأنها لا علاقة لها بالله إلا من منظار واحد هو: ارتباطها بمجرد عدله، أنه ليس من العدل أن يقدر عليك المعصية أو يخلقها فيك أو يجبرك عليها ثم يعذبك.
لكن أثره الوجداني، أثر الحديث عن الوعد والوعيد في وجدان الإنسان وما يتركه من أثر له علاقته الكبيرة بمعرفة الله سبحانه وتعالى، لم يقدم على هذا النحو؛ لهذا رأينا كيف أنهم في الأخير رأوا أن نسبة كبيرة من آيات القرآن الكريم ليست مما يحتاج إليه في مجال معرفة الله سبحانه وتعالى.
لم تقدم تلك الآيات التي يقرر الله فيها حقيقة: أنه غالب على أمره، وعرضت صوراً من واقع الحياة من الأحداث التي ترافقت في مسيرة البشرية، وفي تاريخ النبوات كما حصل في قصة يوسف عليه السلام وكما حصل في قصة إبراهيم عليه السلام وكما حصل في قصة موسى عليه السلام لم تقدم أيضاً كأسلوب من أساليب معرفة الله سبحانه وتعالى ليست مثيرة للعقول إذاً فهي هناك فقط تتلى لمجرد التعبد بتلاوتها، وتعطى مقابل كل حرف عشر حسنات، هي هناك لإنتاج الحسنات فقط!
لهذا كان يأتي الواحد منهم ممن قضى معظم عمره في هذه الأبحاث من هذا القبيل داخل علم الكلام وتراه في الوقت نفسه يدين بالطاعة لحاكم ظالم. هل هذا عرف الله؟
تراه في الوقت نفسه يعتقد عقائد تتنافى مع عظمة الله، مع حكمته، مع جلاله، مع عدله، مع رحمته، مع حكمته في أفعاله. هل هذا عرف الله؟ تراه في الأخير كما قيل عنهم: لا يخشع قلب قاسي هل هذا عرف الله؟ وهو من قال سبحانه في كتابه الكريم: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية28) هم من يخشونه.
لكن لما أصبح لدينا مسمى العلم، أو المقاييس التي من خلالها نطلق على هذا (عالم) أو هذا نسميه عالما، أصبحت هي تقاس بمقدار ما يقرأ من كتب كيفما كانت سميناه عالماً وهو ليس في قلبه خشية من الله.
إذاً فإما أن تكون الآية المباركة: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} والتي قدمت كحقيقة إما أن تكون هي غير واقعية، أو يكون قلب ذلك الرجل هو غير الحقيقي فيما داخله مما سميناه علماً. ليس علماً، هو علم باعتباره اطلاعاً على قواعد، العلم يطلق على العلم النفسي، ويطلق أيضاً على مجرد القواعد. يقال: علم الفقه، علم الكلام، علم كذا.
لا بأس هو عالم بهذا المسمى، لكن من كان عالماً على هذا النحو، وليس بالشكل الذي سمته به الآية الكريمة: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فإنه لا يزال جاهلاً، لا يزال جاهلاً؛ لأنه في الوقت نفسه لم يأخذ العلم من مصدره، لم يأخذ الحكمة ممن يؤتيها، الله قال لنبيه (صلي الله عليه وعلى آله وسلم): {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طـه: من الآية114) رب زدني علماً، لم يقل له تعلم، انظر الآخرين ما لديهم وتعلم. لا، ربِّ أنت، أنت زدني علماً، اهدني أنت، ارزقني من علمك، من علمك الواسع، ائتني من حكمتك الواسعة {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة: من الآية269).
وعالم يكون على هذا النحو، عالم أي قرأ كتبا، قرأ فنوناً، يسمى هذا الفن علم كذا، ويسمى هذا الفن علم كذا، ويسمى هذا الفن علم كذا، هو عالم على هذا المصطلح هو عالم، لكن إذا لم يعلم ـ في الوقت نفسه ـ ذلك العلم الذي يجعله يخشى الله فسيصبح علمه يشكل خطراً بالغاً على الإسلام والمسلمين، يشكل خطراً بالغاً على البشرية، يرسخ جهالات متراكمة، وإن صدّر كتابه بعبارات كريمة مثل [بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه..] إلى آخره.
ثم يذكر لك ما الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب، ثم عن الأبواب التي تناولها، ثم تقسيمه إلى كذا فصول ...إلى آخره، ثم يقول: [مبتغياً بذلك وجه الله، وأن يسهم في إثراء المكتبة الإسلامية وأن يتناول ما رأى بأن الآخرين بحاجة إلى معرفته ليقدم خدمة للإسلام والمسلمين، راجياً من الله بذلك أن يتقبله وأن يكتبه ويجعله في رصيد حسناته يوم يلقاه]. هكذا تأتي الأشياء بحسن نية.
القرآن الكريم علّمنا بأن حسن النية لا تكفي، أنه حتى الإخلاص لا يكفي إذا لم تعتمد على القرآن الكريم لتعرف من خلاله ما هو العلم، ثم تمشي من خلال ما يرشدك إليه في آفاق الحياة، وآفاق المعارف الأخرى فتزداد معارف حقيقية، كل شيء في الأخير يعطيك معرفة، يرسخ لديك معاني كمال الله سبحانه وتعالى، كل هذا العالم ليس فيه شيء لا يشهد بكمال الله سبحانه وتعالى.
يقال في [علم الكلام] بأنه أشرف العلوم؛ لأن موضوعه هو معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة الله هي أعلى شيء، فالفن الذي يتناولها هو أشرف العلوم؛ لذلك يبادرون به وبكتيّبات صغيرة إلى الأطفال من سن البلوغ يكون قد بدأ بمعرفة الله؛ لأنها أهم شيء، لكن هكذا ننظر للأشياء وننطلق فيها بحسن نية وبإخلاص وكأن القضية متروكة إلينا نحن، أن نرسم الأشياء على ما نرى, وعلى ما نلمس بأن فيه رضا الله, وفق رؤية انطلقت من داخلنا دون اعتماد كبير على القرآن الكريم بأنه كتاب شامل يعطي مناهج للمعرفة أيضاً، ومناهج للتربية ومناهج للعمل في مختلف شئون الحياة.
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} هذه وحدها تكفي لمن يتأمل؛ لأننا نقول: إن الله سبحانه وتعالى هو العالم هو العليم {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام: من الآية73) {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (البقرة: من الآية255) {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الفرقان: من الآية6) إذاً هو العالم. أليس كذلك؟ هو العالم واسع العلم، هو من أحاط بكل شيء علماً، فهو من يجب أن نلتفت نحوه ليعلمنا، وليس فقط أن ندعوه أن يرزقنا العلم وننطلق من مصادر أخرى نبحث عن العلم.
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي} زدني أنت {عِلْماً} حتى العلوم الأخرى هذه الاختراعات، وعلوم الصناعة، يقال: إن كثيراً من المخترعين ـ وهم أثناء تجاربهم ـ كانوا يلمسون وكأن هناك شبه توفيق إلهي أو تدخلاً إلهياً في المسألة، فيرشدهم إلى شيء معين فيبتكر شيئاً من خلال تجاربه المتعددة،
يلمس البعض منهم يداً غيبية تتدخل في القضية، يطلب الشيء فيبرز إلى الوجود من الاختراعات العظيمة غير ذلك الشيء الذي كان متجهاً نحوه وهو يجري تجارب يريد شيئا آخر.
واسع العلم، من وسع كرسيه السموات والأرض، من أحاط بكل شيء علماً، أليس هو الذي ينبغي أن نعرفه من خلال ما يهدينا إليه هو، من خلال كتابه الكريم؛ لأنه هو من خلقنا، هو من يريد أن نعرفه تلك المعرفة التي تترك أثراً في نفوسنا، وليست معرفة لمجرد المعرفة، أو علماً لمجرد العلم، فنقول: كم قرأت في كتب الكلام؟ -التي سميت فيما بعد: [كتب أصول الدين]- كتاب كذا، وكتاب كذا، وكتاب كذا...إلى آخره. ما شاء الله، نقول هكذا:
عالم، عالم لمجرد العلم، وعقائد لمجرد العقائد، علم محدود عقائد أتعامل معها بشكل أحكام أصدرها، وليس هناك أثر لها في النفس.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
(معرفة الله – نعم الله - الدرس الثاني)
ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي / رضوان الله عليه.
بتاريخ 6 من ذي القعدة 1422 هـ الموافق:19/ 1/2002م
اليمن – صعدة.