عبدالمؤمن محمد جحاف
شهدت الساحة اليمنية يومَ الاثنين، تشييعَ الفريق الركن محمد عبدالكريم الغماري؛ لحظةً مفصليةً جاءت محمّلةً بالدلالات السياسية والرمزية.
في كلمته بمناسبة الاستشهاد، استخلص قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي -نصره الله- – مجموعة محاور مركزية تشكل خريطةَ المعنى التي يريد أن يرسخها في الوجدان العام: تجذّر الرابط الشعبي بالجيش، تقديس الشهادة والهوية الجهادية، تقييم واقع الأُمَّــة والجيوش العربية، الاحتفاء بالإنجازات الوطنية في البُنية العسكرية، والاحتفاظ بخط تصعيدي رادع إزاء العدوّ.
الحضور الشعبي كقوة معنوية وسياسية
افتتح السيد القائد الخطاب من حَيثُ انتهى مشهد التشييع: بالحضور الشعبي الواسع كدليل على تماسك المجتمع وتجانسه مع المؤسّسة العسكرية.
لم يقدّم القائد هذا المشهد كطقس عزاء فحسب، بل كرّسَه رسالةً سياسيةً مفادها أن المؤسّسة المسلحة ليست كيانًا منفصلًا عن الشعب، بل امتداد له ومرآةٌ لتوجّـهاته وقيمه.
هذه القراءة تُحوّل التشييع إلى فعل سياسي يُقرأ باللغتين الرمزية والواقعية، وتذهب بالخطاب من مقولة «خسارة فردية» إلى «درس جماعي» في المواجهة والثبات.
الشهادة والهوية القرآنية: مدرسة تربية وصياغة للمواقف
كرّس السيد القائد في الخطاب مكانةَ الشهادة كخاتمةٍ مشروعةٍ للحياة وبوابةٍ لتمجيد القيم والفضائل: الإخلاص، الصبر، المبادرة، الابتكار، وحسن الخلق.
عرض الغماري نموذجًا للتربية الإيمانية التي تصنع قادةً لا يخضعون لحسابات القوة المادية فقط، بل للحسابات القيمية والقرآنية التي تشكّل «رؤية» وحافزًا للعمل.
بهذه الصيغة يتحوّل الشهيد إلى مُدرّسٍ للأجيال، وإلى أدَاة تثقيفية تبرّر استمرار المسار.
قراءة جيوسياسية: نقد للأداء العربي وإعادة تعريف مفهوم القوة
من أبرز مضامين الخطاب النقدُ الصريح لغياب الجيوش العربية والإسلامية أَو ضعف أثرها، مع تحميل هذا الغياب سببه إلى حسابات الإمْكَانات ونسيان البُعد الإيماني والروحي في مواجهة عدوان استثنائي.
يسحب القائد الخيط إلى توصيف سياسات «التسوية» و«التأقلم» بأنها مسارات فاشلة تقود إلى تبعية ومهانة، ويقدّم موقفَ اليمن؛ باعتبَاره نموذجًا مضادًا يعتمد على التعبئة الشعبيّة والقدرات الذاتية.
هذا الإطار يقرأ الصراع كميدان اختبارات للولاءات والرؤى أكثر من كونه مُجَـرّد ميزان قوى تقليدي.
الإنتاج الحربي والقدرة الذاتية: نقطة قوة
جاء في الخطاب الحديث عن «الإنجازات الحربية» المحلية -من تصنيعٍ صغيرٍ كالأسلحة الفردية إلى منظومات متقدمة كالطائرات المسيّرة والصواريخ- كدليلٍ على قدرة البلد على صناعة أدوات المواجهة والاعتماد على الذات.
لهذا البُعد مردودان: داخلي يطمئن قواعد الخطاب ويعزّز الثقة، وخارجي يوجّه رسالة ردع للخصوم بأن القدرة على الصمود والتصعيد متاحة ومتصاعدة.
الاستعداد للتصعيد كأفق استراتيجي
من المحاور العملية في الخطاب ما يرتبط بتحذيرٍ واضح: الاستعداد للعودة إلى العمليات ورفعُ مستوى التصعيد إذَا ما تواصلت «الإبادة» والجرائم ضد الشعب الفلسطيني.
تُبقي هذه النغمة باب التحَرّك العسكري والسياسي مفتوحًا كأدَاة ضغط واستجابة في آنٍ واحد، وتقرنها بالدعوة للاستمرار في التعبئة والتأهيل والتدريب.
بهذا تصبح الجاهزية مفهومًا ديناميكيًّا مرتبطًا بوقائع الميدان والمعايير الأخلاقية التي حدّدها الخطاب.
الخطاب كمشروع تربية وسياسة: أي أثر على الداخل والخارج؟
خطاب القائد هنا مؤسّس على مفهومين مترابطين: أولًا أن السياسات الكبرى تُبنى على قوالب قيمية ودينية (الهوية القرآنية والجهادية)، وثانيًا أن الاستمرار في المواجهة يتطلب مزيجًا من التعبئة الشعبيّة والقدرة التقنية.
داخليًّا، يعمل هذا الخطاب على تقوية اللحمة بين المجتمع والجيش وشرعنة خيارات الصراع.
خارجيًّا، يرسل رسالة مزدوجة: رفض التنازل، واستعداد ملموس للردع.
خاتمة
خطاب السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي -رعاه الله- في استشهاد الفريق الركن هاشم الغماري لم يكتفِ بتأبينه قائدًا عسكريًّا؛ بل وظّف الحدث ليكرّس روايةً تاريخيةً وسياسيةً: شعبٌ موحّد، جيشٌ امتداد له، شهادةٌ نموذجٌ لمعنى الارتقاء، قدرةٌ وطنية في البناء العسكري، ورفضٌ قاطع للمهادنة مع العدوّ.
القراءة لهذا الخطاب تكشف أنه ليس مُجَـرّد خطاب عزاء، بل خارطة مقاصد سياسية وتربوية واستراتيجية تُراد منها إعادة إنتاج مشهد القوة والمعنى في زمنٍ متقلب.