عدنان عبدالله الجنيد
الحمدُ للهِ القائلِ في محكم تنزيله: ﴿إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّـة قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾.. آيةٌ تختصرُ سِفرَ القيادة الربانية، وتميطُ اللثام عن سرّ الرجال الذين تَجتمعُ في صدورهم أماناتُ أمم، وتلتقي عند أقدامهم مصائرُ شعوب، فيكون الواحدُ منهم أُمَّـة في رَجُل.
في زمنٍ تتلاطم فيه الفتن، وتشيبُ من هولِه الولدان؛ في عصرٍ صار الصراعُ فيه بين الإسلام والكفرِ عالميًّا، والانقسام فيه دينيًّا وسياسيًّا وحزبيًّا، واليأسُ فيه يخنقُ أرواحا أرهقتها خياناتُ الحكّام وتخاذلُ الأنظمة، يبرز السؤال: ألا يَحِقُّ للأُمَّـة أن تُفتِّش عن قائدٍ يعيدُ إليها أنفاسها الأولى، ويُوقظُ فيها جوهرها الإيماني، ويصنعُ الأجيال كما يُصنع السيف في لهيب النار؟
لقد غرق كثيرٌ من الإسلاميين في وهم "الرجل الوحيد"، ذلك المخلِّص الأُسطوري الذي سيُغيِّر الواقع بضربة عصا سحرية، ويقلبُ الهزيمة نصرًا بكلمة.. لكن الواقع يصفعُهم كُـلّ يوم: لا رجلٌ ينهض منفردًا، ولا أُمَّـة تقومُ على الأماني، ما لم تنهض بمنهج، وبرؤية، وبقائدٍ يفتح الطريق ويستنهض الطاقات ويصنع وعي الجماهير.
القرآن الذي قدّم إبراهيم عليه السلام بوصفه "أُمّة" لا يريدُ للأجيال أن تبحث عن معجزة بشرية، بل يَدلّها على سرّ القيادة الحقّة: القنوت لله (الارتباط بالمبدأ، لا بالعاطفة العابرة)، والحنيفية (صفاء الاتّجاه بلا ازدواجية ولا تردّد)، ورفض الشرك (مقاومة الظلم والهيمنة والطغيان أيًّا كان شكلها).
فكان إبراهيم أُمَّـة؛ لأَنَّه حمل همّ الناس جميعًا، وتحَرّك بإيمان لا يتزعزع، وصنع نموذجًا يتجاوز حدود الفرد ليبلغ مدى الأُمَّــة.
في قلب لجة العاصفة، يظهر السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي نموذجًا حيًّا لمفهوم "الأمة في رجل" في الوعي الشعبي اليمني وفي أذهان جماهير محور المقاومة؛ ليس لأَنَّه ادّعى ذلك؛ بل لأَنَّ الواقع الميداني والسياسي والعسكري رسم هذه الصورة بوضوح لا التباس فيه.
• القيادة النموذجية: من الوعي القرآني إلى الفعل التاريخي، يقدّم نفسه قائدًا بمنهج، لا بسلطة.
خطابه ليس ترفًا لغويًّا، بل مشروعٌ تعبوي يؤسس للوعي ويصنع إرادَة شعبيّة كاملة.
يتحَرّك وفق قاعدة إبراهيم: الإيمان أولًا.. ثم الجهاد.. ثم بناء الأُمَّــة.
• استراتيجية عسكرية غير متماثلة قلبت ميزان القوى
لم يواجه الاستكبار العالمي بجيوش جرارة ولا بعتاد غربي، بل واجهه بما يسميه العسكريون: "حرب العقول لا حرب العضلات".
فقد تحولت الطائرات المسيرة (يافا) من سلاح بسيط إلى رأس حربة استراتيجية، وتطورت صواريخ باليستية محلية تصل إلى 2000 كم وما بعدها، مع قدرة على إسقاط طائرات أمريكية متطورة مثل الـMQ-9 Reaper.
كما نقل المعركة إلى البحر الأحمر وقيّد الملاحة العالمية في لحظة، ووصلت صواريخه وطائراته إلى تل أبيب في سابقة عربية لم تحدث منذ عقود.
إنها معادلة تقول للعالم: "حين يمتلك القائد رؤية، فَــإنَّ المستحيل يصبح حسابًا في دفتر العمليات".
• إعادة هندسة الداخل: من القبيلة إلى الهُوية الجامعة
أعاد تشكيل الواقع الاجتماعي اليمني بعملية معقدة مزجت بين: تفكيك البُنى القبلية التقليدية، وبناء ولاء جديد قائم على الهُوية الدينية والسياسية، وعسكرة المجتمع بنمط مدروس، واحتواء أَو تحجيم مراكز القوى القديمة.
كانت العملية قاسية عند الحاجة، مرنة عند الضرورة، لكنها صنعت في النهاية واقعًا جديدًا لا يمكن تجاهله: أُمَّـة جديدة تتشكل بقيادة رجل واحد.
• فلسطين كراية استراتيجية لا مُجَـرّد شعار
وظّف القضية الفلسطينية بذكاءٍ استراتيجي فريد: ليشكل بوابة لشرعية إقليمية، وتحشيد داخلي، ومواجهة أمريكا عالميًّا، ولإثبات أن اليمن –رغم الحصار– قادرٌ على ضرب كَيان الاحتلال الصهيوني بينما غيره عاجزٌ حتى عن الكلام.
وبهذا أصبح اليمن –عبر قيادته– رقمًا صعبًا في معادلة الصراع الشرق أوسطي.
وهذه ليست ظاهرة فردية، بل تحول اجتماعي–سياسي–عسكري تشكّل على مدى عقدين: قيادة واعية، مشروع فكري، مؤسّسات تتحَرّك، مقاتلون يتدفقون، صناعة عسكرية تتطور، ووعي شعبي يتسع.
كُـلّ ذلك يجعل من السيد عبدالملك الحوثي –في نظر جماهيره وأنصاره– ترجمةً عصرية لقول الله تعالى عن إبراهيم: "كان أُمَّـة".
ليس لأَنَّه نبي، ولا لأَنَّه معصوم، بل لأَنَّه استطاع أن يتحول من فردٍ في جبال صعدة إلى قائدٍ يُربك واشنطن، ويقيد (إسرائيل)، ويغيّر ميزان البحر الأحمر، ويصنع أُمَّـة من بين الركام.
إذن.. في زمن الاضطراب العالمي، وفي عصر الاستكبار الأمريكي–الإسرائيلي، وفي مرحلة الانهيارات العربية، الأُمَّــة بحاجة إلى من يفتح لها نافذة في الظلام، إلى قبسٍ من النور في لجة العاصفة، إلى قائدٍ يصنع وعيًا، ويقود جهادًا، ويبني أُمَّـة من العدم.
وهكذا يلتقي المفهوم القرآني بالتجربة الواقعية: حين يكون القائد أُمَّـة في رجل.. تنبعثُ الأُمَّــة من جديد.



.jpg)
.jpg)


