محمد فاضل العزي
في اللحظة التي تضطرب فيها موازين القوى، وتختبر فيها الأزمات معادن الرجال، يشخصُ البصرُ نحو اليمن؛ "يمن الإيمان والحكمة".
هناك، حَيثُ تمور الساحات بحشودٍ مليونية تقذف بالمهج والأرواح في سبيل الله، يتبادر إلى ذهن الرائي تساؤلٌ وجودي عن تلك الحشود التي خرجت لنصرة كتاب الله: هل قامت القيامةُ في أرض اليمن قبل أوانها؟ هل نُفخ في الصُّور فحُشر الناس أممًا؟
إن هذا الزخم البشري الذي لا يُدرك المدى منتهاه، لم يخرج طمعًا في مغنم، بل خرج غيرةً على كتاب الله الذي دُنّس بمرأى ومسمع من أُمَّـة المليارين، واستجابة لداعي الجهاد السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي، الذي استنهض فيهم إرث الأنصار الأوائل.
المفارقة الصارخة: ساحاتُ العزة وملاعبُ الخنوع
بينما يسطّر اليمانيون ملحمةَ الوفاء للمقدَّسات، نرى صورةً مأساويةً في بقية الأقطار العربية والإسلامية.
ففي الوقت الذي تغصُّ فيه ساحات اليمن بالهُتاف للقرآن ونصرة المستضعفين، تكتظُّ شوارع وعواصم أُخرى بآلافٍ تزحف نحو الملاعب والملاهي في حالة من الجمود المطبق والذل المخزي.
وهنا تصفعُنا الحقيقةُ القرآنية الصادمة: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
هل يستوي عند الله من جاد بنفسِه لنصرة دينه، ومن انبطح لهوًا وخُنوعًا؟ إن الفارقَ بين المشهدَين هو الفارقُ بين "الإيمان الحي" و"الطقوس الميتة".
غزة.. الجرحُ الذي كشف العورات
إن ما يجري في غزة اليوم هو "الفاضحة الكبرى".
غزة التي لا تكتفي آلةَ القتل الصهيونية بتمزيق أجساد أطفالها، بل تُركت لتواجِهَ جُوعًا مُميتًا وبردًا قارسًا يفتِّت العظام، وهي تغرقُ تحتَ مياه الأمطار في خيامٍ مهترئة.
وأمام هذا المشهد الجلل، يكتفي العالَمُ العربي ببياناتٍ هزيلةٍ واتّفاقياتٍ كاذبةٍ تبيعُ الوهمَ للمظلومين وتمنحُ الوقت للقاتل، ضاربين عرضَ الحائط بقوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.
محاكمة الضمير المأجور
إن هذا المقالَ هو نداء وتأنيب لكل من ادعى الصلاحَ وخرس عن الحق:
أين علماؤكم الذين استنفروا للجهاد في اليمن وسوريا حين كانت الفتنة تخدمُ أعداء الأُمَّــة؟ لماذا بلعوا ألسنتَهم اليوم وغزة تُباد والقرآن يُهان؟ لقد وقعوا في محظور قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ.. أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.
أين المترنِّمون بالقرآن في صلوات التراويح؟ بئست القراءةُ إن لم تُحيِ فيكم غَيرةً، وبئست الحناجر إن لم تصدح بالحق.
كيف تقرؤون آياتِ النفير وتثاقلون إلى الأرض؟
أين جيوشُ "الذباب الإلكتروني" والقنوات المأجورة التي لم تكلّ من مهاجمة محور المقاومة؟ لماذا خرسوا والعدوّ يدنس أقدس المقدسات؟
كلمة أخيرة
إن مَن لا تحَرّكه دماءُ الأطفال في فلسطين، ولا يستفزهُ أنينُ الجوعى تحت المطر، ولا تغلِ مرجلهُ لتدنيس كتاب ربه؛ فقد مات قلبه وإن كان يمشي بين الناس.
إن اليمنَ اليومَ هو "الحُجَّـة البالغة" لله على هذه الأُمَّــة؛ فإمَّا أن تكونوا مع الله وكتابه وعبادِه المستضعَفين، وإما أن تكونوا مع رَكْبِ "المجرمين" الذين سكتوا فخانوا.
سيعلمُ التاريخ، وسيشهدُ الله، أن يمنَ الإيمان لم يخذُلِ القرآنَ حين خذله العالم، ولم يترك غزةَ للبرد والجوع حين حاصرها "الأقربون".
خاتمة: بين فِسطاطِ العزة ورُكامِ الخيانة
إنَّ الدائرةَ قد أُغلقت، والستائرَ قد كُشفت، ولم يعد في الوقتِ متسعٌ للمناورة أَو المداهنة.
إنَّ يمنَ الأنصار اليوم لا يقدّم خطابًا سياسيًّا، بل يقدم "بيانًا إيمانيًا" كُتِبَ بالدمِ والزحفِ المليوني، ليقول لأمةِ المليارَين: إنَّ الذي لا تحَرّكه أشلاء الأطفال الممزقة في غزة، ولا يستفزهُ أنينُ الجياع وهم يرتجفون تحت سياطِ البرد والمطر، ولا تُغلي مرجلهُ إهانة المصحف الشريف؛ هو ميتُ الأحياء، وإنْ صام وصلى وزعم أنه مسلم!
يا عبيدَ الاتّفاقيات الكاذبة، ويا حُرَّاسَ العروشِ الواهنة: إنَّ التاريخَ لن يغفر، والقرآن لن ينسى، ورَبَّ السماواتِ بالمرصاد.
فإما أن تكونوا مع "فسطاطِ الإيمان" الذي يذودُ عن حياض الأُمَّــة بصدورٍ عارية، وإما أن تكونوا مع "فسطاطِ النفاق" الذي غَرِقَ في وحلِ الصمتِ والتبعية.
فيا خيبةَ من لقي اللهَ غدًا وفي عينهِ "مشهدُ الملاعب" وفي أُذنه "صرخةُ غزة"! ويا لثاراتِ الكِتاب، ويا لثاراتِ المستضعفين..
إنَّ غدًا لناظرهِ قريب، وسيعلمُ الذين ظلموا -بصمتهم أَو بفعلهم- أيَّ منقلبٍ ينقلبون!







.jpg)