تلك الجريمة التي فتحت أبواب الشر كلها على الأمة وكانت فاتحة سوء داخل الأمة؛ لأنه حينما استهدف الحسين سبط رسول الله، وسيد شباب أهل الجنة بكل ما له من قداسه، وبموقعه العظيم في الإسلام، وبمكانته الكبيرة كرمزٍ للأمة، وهادٍ في درب جده المصطفى محمد (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله)، ووريثٍ لجده خاتم النبيين، يمثِّل قيم الإسلام، ويحمل مبادئه، ويرفع رايته، بعد ذلك لم يبق شيءٌ من المقدسات والحرمات يتحاشى الطغاة والظالمون من المساس به، ولذلك عَمِدوا بعد قتله (عليه السلام) إلى استباحة مدينة جده رسول الله وقتلوا من تبقى فيها من المجاهدين في وقعة بدر ثأراً للكفر والكافرين، واستباحوا فيها حرمة الدم، وحرمة العرض، وحرمة المال لثلاثة أيامٍ متوالية، وأحرقوا الكعبة المشرفة ودمروها آنذاك فيما بعد، وهكذا بلغ الحال بهم، وحينها لم يبقَ أي قيمة للأمة لديهم, ولا لدينها، ولا لمقدساتها، ولا لرموزها، فحكموها بمنهجية الطغيان.
((اتخذوا دين الله دَغلا)) فأفسدوا القيم، وقوِّضوا الأخلاق، وحرَّفوا المفاهيم، وزيفوا الوعي، وقلَّبوا الحقائق، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ((واتخذوا عباد الله خولا)) فاستعبدوهم وسخّروهم لخدمتهم ومصالحهم.
ومظاهر الاستعباد والسُخرة للأمة من جانب حكّام الجور والظالمين متعددة وعلى كل المستويات، على المستوى العسكري وفي ميادين القتال، حيث يدفعون الكثير من الناس للقتال والقتل في سبيل تقوية أمرهم، واستحكام سلطانهم، وتعزيز هيمنتهم، وسطوةً منهم بالمستضعفين، وظلماً للمظلومين، وبطشاً بالصالحين، وتنكيلاً بالأحرار، وإذلالاً للناس، وإنفاذاً لأمرهم الباطل فيما ليس لله فيه رضى، ولا للأمة فيه خيرٌ ولا مصلحة.
وعلى المستوى الثقافي والفكري، حيث يدفعون بعلماء البلاط ووعاظ السلاطين لتحريف المفاهيم وشرعنة الظلم، وتدجين الأمة باسم الدين، وإبعادها عن النهج القويم.
وعلى المستوى الإعلامي، حيث يدفعون البعض ليكونوا أبواقاً لهم، وألسنة سوءٍ كاذبة، فينشرون الشائعات الباطلة والأكاذيب، ويقولون الزور والبهتان، ويزيفون الواقع والحقائق، ويكتبون بأقلامهم المأجورة كذلك، خدمةً وسُخرةً وشكلاً من أشكال العبودية للطغاة.
((واتخذوا مال الله دولا)) فينهبون خيرات الأمة وثروات الشعوب، ويستأثرون بالمال العام، ويتداولون به في مصالحهم الشخصية على سبيل الترف والإسراف، ولشراء الولاءات والمواقف، وشراء الذمم، ويتركون الأمة تعاني ويلات الفقر، ونكد العيش، والمعاناة بكل أشكالها.
وهكذا مضى واقع الأمة الإسلامية على امتداد التاريخ منذ استحكام القبضة الأموية على سلطان الأمة وإلى اليوم، إلاّ في الحالات النادرة والمحدودة والاستثنائية، ولولا أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) واجه مسلك الانحراف الذي بلغ ذروته بقبول الكثير من أبناء الأمة أن يتولى يزيد بما اشتهر به من الفجور والفساد والخمر والسكر والجهل والاستهتار بالدين وغير ذلك أمر الأمة، ويحكمها ويتحّكم بها، لولا الإمام الحسين أنه واجه هذا المسلك لطمست معالم الإسلام فلا يبقى لها أثر، ولكن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ضمنت للإسلام استمراريته، وأنقذت المجتمع الإسلامي من التناسي العام والمطلق للقيم والمبادئ، ولذلك فهي ثورة العدل في مواجهة الظلم، وثورة الخير في مواجهة الشر، وثورة الحق ضد الباطل، وثورة الأخلاق والقيم على الطاغوت المفسد في الأرض.
وفي كل نداءات الإمام الحسين وخطاباته التي وجهها إلى أمة جده منذ بدء حركته أوضح الأسس والمعالم المنبثقة عن منهج الله والقائمةِ على أساسٍ من هدي الله ونوره، أوضح خطورة الظالمين على الأمة، على حياتها، على معيشتها، على أمنها، على استقرارها، على عزها، على كرامتها، فقال (عليه السلام): ((ألا وإن الدنيا قد تغيرت وتنكَّرت وأدبر معروفها واستمرَّت جداً فلم يبقَ منها إلا صبابةٌ كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا بَرما)) هذه الرؤية التي مثّلت حقيقة القرآن، حقيقة منهج الله، أن الحياة تسوء عندما يُهيمن الظلم والظالمون، وأنه لا بد في مواجهة استحكام الشر ولدفع الظلم والطغيان والفساد من التحرك الجاد، والموقف الصادق، والتضحية والعطاء، والصبر على تحمل أعباء المسئولية الذي هو في الواقع أيسر من الصبر على أعباء ونتائج التفريط والتقصير، وهذا ما يجب أن تَعِيَهُ شعوب أمتنا اليوم التي ترزخ تحت وطأة الظلم والظالمين، وهي متطلِّعة الآن إلى التحرر وإلى الخروج والانعتاق من أسر المعاناة والاضطهاد والقهر.
من خطاب السيد / عبدالملك بدرالدين الحوثي - حفظه الله.
في ذكري عاشوراء/ بتاريخ
10/ محرم /1435هـ اليمن - صعدة.