عبدالملك سام
ليس هناك غربة كغربتك وأنت بين أهلك وعشيرتك، وفي بلدك!
تتحدث لهم عن أحساسك بالمرارة من العدوان والأوضاع التي فرضها علينا، فتجد البعض يفضل أن يلقي اللوم على جزء من هؤلاء المظلومين!
أنا أتكلم عن البعض طبعا.. ولكن هؤلاء هم من يتجراءون على الكلام في الوقت الذي يعاني فيه الطيبون من الضغط النفسي جراء الظروف القاسية التي يعانيها شعبنا..
أنا أرى القصة كالتالي.. جزء من أهلي كرماء، لم يستطيعوا السكوت وبلدهم ينهار تحت وطأة الفساد والأستبداد والتبعية والظلم والإستنزاف، وقرروا أن يتحركوا قبل ضياع كل شيئ.. تحدوا الظروف والتثبيط والخوف والقمع لعلهم يستطيعون أن ينقذوا ما يمكن أنقاذه، متحدين ألة القمع الرهيبة التي تحاول أن تعيدهم لوضع العبودية المرير، تسلحوا بالإيمان وبما وهبهم الله من عزيمة وصبر لما عرف صدق توجههم، وهؤلاء من أختاروا الطريق الصعبة وهم من يعول عليهم دائما.
أما الجزء الثاني، فهم من أعتادوا الخنوع والتطبيل وتمجيد الباطل.. لطالما شكوا في كلامهم من نظرة الأحتقار التي يرميهم بها شعوب أخرى أذا ما سافروا هربا من ظروف بلدهم.. لطالما شكوا تعبهم وقلة حيلتهم أذا مرضوا، وتدني مستواهم في كل مناحي الحياة حتى الرياضة! وأذا ما سافروا مضطرين تجدهم يتغنون بما شاهدوه في بلدان أخرى ويكأنهم خرجوا من الجحيم إلى الجنة! هل هذه هي البلد التي سميت يوما باليمن السعيد؟! شوارع تتكدس فيها الأوساخ، وأطفال يفتقدون الطفولة، وتعليم متدني، ومستشفيات تشكو لبارئها سوء حالها.. كل ما في بلادنا كان يشكو ويئن.. منذ أن تبداء يومك وحتى تنهي مقيلك وأنت تحاول أن تخدر نفسك حتى لا تموت كمدا! فهل كانت أرضنا بور؟ أم أننا نعيش في بلد لا موارد فيه؟ أم ربما مساحة أرضنا صغيرة وتشكو من طقس هو الأسواء في العالم؟ فلا بحار ولا مياه ولا أشجار ولا حياة؟!!
ما أفتقدناه خلال السنين العجاف هو الضمير.. نعم الضمير. تعرضنا لتنويم شيطاني حتى أعتدنا الأنبطاح.. سنين عجاف تمر ومنحنى الأخلاق ينحدر بداخلنا حتى ماعدنا نفرق بين الخطاء والصواب.. ترتفع الأسعار بأمر الله، ويزيد الفساد بأمر الله، ونتخلى عن أخلاقنا بأمر الله!! تزداد الأمراض وتنتشر الأوبئة ويموت أعزائنا بأمر الله!! يزيد البطش، وينتشر الظلم، وتقل الحيلة بأمر الله!! فهل صحيح أن هذا كان بأمر الله؟!!
في سالف العصر والأوان، كان هناك بلد عظيم يسمى اليمن.. كان فيه حضارة عظيمة، وشعب مهاب الجانب، وقوانين وحضارة لم تكن توجد في الشعوب التي عاشت حوله.. حدوده تجمع قارات العالم، وسخطه يصل إلى أطراف الأرض، وشعبه طالما كان يطمح للعلياء.. اليوم أصبح تاريخه ممنوع عليهم أن يقراؤه حتى لأنهم تركوا القراءة! وأنتهت عنترياتهم وبطولاتهم وأساطيرهم لأن البعض فضلوا أن يموتوا على فراش المرض والمذلة عن موت الكرامة.. أصبحوا عاجزين لدرجة البكاء، ويخافون لدرجة الرجاء.. ينتظرون من الجلاد أن يصحو ضميره ليرمي لهم كسرة خبز مغمسة بالذل!! أناس لم تتعلم من قصص الماضي القريب وما فعله الهوان بغيرهم.. فهل هؤلاء أحفاد من بنى السدود، وشيد الحصون وأذل المتجبرين!! أبناء الحكمة والإيمان الذين أرتضوا أن يكونوا من اللئام!!
أنا هنا لا أعاتب، ولا أندب حظي.. فقط أحس بالقهر يعتصرني وأنا أشاهد صورا لبعض أبناء جلدتي مرمي الجثة وفي جيوبهم بضع ريالات سعودية، وفي وجوههم الحسرة والألم! والبعض الآخر أرتضى أن يفتدي الغازي الشامت بلحمه دون أن يشعر بالعار وهو يدفع كالنعاج للمحرقة بينما سيده يجلس في الظل يراقب مصيره.. وآخرين أرتضوا أن يجلسوا ليشاهدوا من ينتصر ليصفقوا له ويسبحون بحمده.. وآخرين لم يكتفوا بالمشاهدة فأنبروا في الطعن والتجريح بخسة فيمن يضحي بحياته وكل ما يملك ليفتدي حياتهم!! من أين أتى كل هذا الجحود يا خير أمة أخرجت للناس؟!
المجاهدين.. يافخر حاضرنا.. مشاهد العزة التي نشاهدها من الجبهات هي ما يبعث الفخر في نفسي المتعبة.. قوافل الصمود والعزة التي تجمع من خزائن الفاقة والصبر هي ما تبعث الأمل في دياجير اليأس.. حري بنا أن نفخر بهؤلاء الرجال الذين أعادوا لنا مفاخر التاريخ ليصنعوا لنا أملاً بغد أجمل، ومستقبل ينتهي فيه الأستبداد والظلم والقهر والمرض.. هؤلاء من سووا الأعوجاج، وأناروا الدروب، ولقنوا الدروس، وبعثوا ما مات فينا من الأباء والشموخ.. هؤلاء هم الغد، سواء كانوا شهداء أم جرحى أم عائدين بشموخ، هم الأحياء حقا وما سواهم أموات.. وهم صناع النصر، وقاهرو المستحيل، ووعد الله.. وبشر الصابرين.