قائد الأمة، ورجل المرحلة:
الشهيد القائد – رضوان الله عليه – ليس شخصية العدد فحسب، بل هو شخصية المرحلة، وعَلَمُ الهُدَى، وقائد الأمة، ومَعينُها الجهادي، ومصدرها الفكري، وباعث العزيمة في قلوب الأبطال، وراسم معالم الصدق في ذاكرة الأجيال.
ومهما تحدَّثنا عنه فلن نوفيه حقه، فقد كان يحمل من المؤهلات الإيمانية والقيادية والسياسية ما رفع مقامه في قلوب الناس. فقد كان ذا وعي وبصيرة وثقة بالله، وإخلاص وشعور بالمسؤولية. وقد رأى أن وعيه وشعوره بالمسؤولية لا ينبغي أن يبقى على مستواه (الفردي) بل لا بد أن يصل إلى الناس ويترسخ في سلوكهم؛ فقام – رضوان الله – بجهود كبيرة لتأهيل الأمة المسلمة وتربيتها – فكرًا وحركة – للنهوض بمسؤولياتها، وكسْرِ أغلال الخنوع التي كبَّلَتْها منذ عشرات السنين.
فبدأ منذ شبابه يتحرّك، وينشر الوعي في أوساط الناس، في مختلف مديريات محافظة صعدة وغيرها من المحافظات. وكان له أساليب مقنعة وناجحة في إيقاظ الضمائر النائمة، وحشد الهمم المخلصة إلى ميادين العمل؛ فانتشرتْ حكمته، وتوسع نطاق حركته، وأذاب جميع الحواجز القبلية، ووحد مسار المجتمع في درب الجهاد (العَمَلي) المتجسد - حكمةً وإيمانًا - في سلوك الفرد والجماعة.
وقد تكللتْ جهوده المثمرة بانطلاق المسيرة القرآنية عام 2001م، ذلك العام الذي كان منعطفًا بارزًا في حياة الأمة المسلمة، من خلال إعلان المشروع القرآني لمواجهة المشروع الصهيوأمريكي.
المشروع القرآني
لا يتسع المقام هنا لبسط التفاصيل حول محاضراته – رضوان الله عليه – من هَدْي القرآن الكريم؛ لأنها أصبحتْ في متناول الجميع، وصارتْ منهجًا يسير على ضوئه رجال الله في شؤون حياتهم كلها، ولكني لا بد أن أنبّه الجميع إلى أن تلك المحاضرات هي صمَّام الأمان لتحقيق النصر – بعون الله – وهي الدليل الصحيح لمواصلة مشوار التنمية والنهضة والتطور والازدهار.. والابتعاد عنها يشكّل خطورة كبيرة، تتيح للأعداء اختراق صفوفنا، والانحراف بمسيرتنا عن الهدف المنشود.
لذلك لا بد أن يبقى الاهتداء بالقرآن الكريم هو المصدر لكل الباحثين والمنتجين والمبدعين في مجال السياسة والاقتصاد والصناعة والزراعة وغيرها؛ لأن محاضراته – رضوان الله عليه – قد فتحتْ أذهان الوعي على المسار الصحيح والمثمر، وأعطت المفاتيح لما انغلق من العقبات والمشكلات والصعوبات. ولو لم يكن فيها سوى ترسيخ الثقة بالله والصدق معه لكان ذلك كافيًا للتدليل على فاعليتها وجدواها في تغيير النفوس إلى الأفضل، وبالتالي الوصول بها إلى مستوى التأييد الإلهي والحصول على معيّته في صناعة التغيير على مستوى الأمة، كما أشار الله تعالى في قوله: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ))(الرعد:11).
ونلاحظ أن أمريكا وأياديها الاستخباراتية كانت ولا تزال تعمل على صرف الناس عن هدي القرآن الكريم؛ لأن الاهتداء به يقتضي فشل مكر ومخططات أعداء الإسلام داخل اليمن وخارجه، وبالتالي تتوجّه الأنظار الواعية والجهود الميدانية إلى مواجهة العدو الحقيقي الذي حذرنا الله منه في كتابه الكريم في عدد من الآيات منها قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))(المائدة:51).
وكان لا بد أن تخوض الأمة القرآنية معركة العزة والكرامة؛ لكي تتخلّص من الوصاية الأمريكية الصهيونية التي أوصلتْ الشعوب العربية والإسلامية إلى حضيض الذلة والامتهان والاحتقار، تلك الوصاية التي حكّمتْ أذناب اليهود من الزعماء على رقاب الشعوب، وأصبحتْ مخططات أمريكا في ميادين التنفيذ، تخوض معارك (الطائفية)، وأصبح الاقتتال بين المسلم والمسلم.. والعدو الصهيوني يسرح ويمرح وينتهك ويفسد في الأرض كما يشاء، بل قد وصل الأمر إلى أنه عَقَدَ التحالف مع كثير من زعماء العرب والمسلمين (العملاء) للتعاون مع اليهود في نشر سمومهم وبسط هيمنتهم على الشعوب المستضعفة (النائمة).
ملامح من سيرة الشهيد القائد
كشفتْ لي الأيام التي جمعتْني بالشهيد القائد في بيت واحد كثيرًا من مكارم الأخلاق (العملية) التي عكستْ عمق إخلاصه لله، وحُسْن تخطيطه للمستقبل، وإحسانه، ودأبه المستمر في خدمة الناس، ورفع المعاناة عن كاهلهم.
فقد كنا نعيش في بيت واحد أثناء تحضيرنا – معًا – للماجستير عام 1999م، وكانت توجيهاته لتدبير شؤوننا الخاصة تدل على أنه رجل لا يحب العشوائية والارتجال، فقد كنا ندفع ميزانية مشتركة (دورية) لشراء احتياجات المنزل من الأثاث والطعام، وكنا نسجل المشتريات اليومية في كشوفات تفصيلية دقيقة، وكان – رضوان الله عليه – يتفضّل بشراء بعض الأشياء للمنزل على نفقاته الخاصة؛ لأنه كان محسنًا كريمًا رغم قلة إمكانياته المادية.
وكان يرسم لنا الخطط للأيام القادمة، وإذا حدث مني تقصير في التنفيذ فإنه لا يعاتبني، بل يستمر في التخطيط للمستقبل من باب التذكير بأسلوب تربوي راقٍ. ومن أهم جداول العمل المشتركة بيننا الدروس اليومية التي كنت أتلقاها منه، وكان يتميز بقدرات عالية على إيصال الفكرة، وتوضيحها وإثرائها من رصيده الفكري والعلمي. وكنت أُقدِّم له في اللغة وغيرها أسئلة لم أجد لها إجابات في مصادر البحث، فكان يعطيني الإجابات الشافية. وكان كثير الربط بين العِلْم وواقع الحياة العملي؛ لأنه يرى أنَّ العلم لا قيمة له إن لم يتجسد في ميادين العمل، لا قيمة له إنْ عَجَزَ عن حل المشكلات وإنقاذ الشعوب من هيمنة الطغاة المستكبرين.
وكان – رضوان الله عليه – قرآنيًّا، يستند إلى القرآن الكريم في أسلوبه الخطابي والتدريسي، وفي حركته ونشاطه، فيستدعي الدليل القرآني نصًّا أو تطبيقًا تجسيديًّا للنص القرآني. وهذا ما أسفرتْ عنه محاضراته فيما بعد.
وهناك ملامح ومواقف أخرى من سيرته المشرقة وإحسانه إلى الناس، أذكر منها موقفًا حدَّثني عنه الأستاذ الشاعر محمد مفلح، وأرويه عنه بالمعنى، حيث يقول: تعطّلتْ سيارتي على طريق (البُقْع – صعدة) في منطقة بعيدة عن مدينة صعدة، ووقفتُ على جانب الطريق، أشير بيدي للسيارات العابرة لعلها تتوقف لمساعدتي، ولكن دون جدوي، وبعد طول الانتظار تعبتُ واستبدَّ بي الإرهاق، وفجأة توقَّفَتْ سيارة آتية من طريق (البُقْع) وعندما تصفَّحْتُ وجه سائقها والرَّاكبين فيها لم أعرفهم، وسألوني عما حدث لي، وبعد أن شرحتُ لهم قالوا لي: اركب معنا (رغم عدم وجود مكان فارغ لي) فتفسّحوا من أجلي، وركبتُ معهم، دون أن أعلم أن الشهيد القائد هو الذي يقودهم، وعندما وصلْنا إلى منطقة (الحَمَزَات) قال الشهيد القائد للأستاذ محسن صالح الحمزي: عليك أن تهتم بهذا الشخص، وتوصله بسيارة خاصة إلى مدينة صعدة ليشتري له (قطع الغيار) التي تحتاجها سيارته، ثم تصطحبه إلى مكان سيارته (المعطّلة)، وتتأكد أن سيارته أصبحت صالحة.. وفعلًا تمت توجيهاته على أكمل وجه، دون أن يأخذوا مني أي مقابل. وعندما سألت الأستاذ محسن صالح الحمزي عنهم قال لي: سائق السيارة هو السيد حسين بدر الدين الحوثي، والذي معه والده السيد بدر الدين وبقية الرُّكاب هم رفقاء رحلته إلى الحجّ. وأضاف الشاعر محمد مفلح تعليقًا على هذا الموقف قائلًا: أصبحتُ من المحبين للشهيد القائد منذ ذلك الوقت وما زلت على دربه إلى الآن.
ــــــــــــــــ
بقلم / ضيف الله حسين الدريب