د. فاطمة بخيت
على حين فترة من الرسل ولد البشير النذير والسراج المنير في تلك البقعة المباركة التي كان يعيش أهلها في ظلام مدلهم من الجهل والضلال والفساد والانحراف، فبعثه الله بالرسالة المهيمنة على كل الرسالات السماوية لينتشل ذلك المجتمع من الظلمات إلى النور.
لكن بدا من بعد ظهور أنوار الرسالة أن تلك الأنوار كانت فوق طاقة وتحمل من ألف حياة التيه والضلال، فأبوا إلا أن يحاربوه بشتى أنواع الوسائل، حتى وصل بهم الحال إلى محاولة قتله وتصفيته، ولكن لأنّ الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون؛ جاء الأمر الإلهي بترك ذلك المكان والهجرة إلى من شرفهم الله بشرف التصديق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما إن عرف أهل يثرب من قبائل الأوس والخزرج اليمنية بقدوم الرحمة المهداة حتى تعلقت أرواحهم شوقاً لرؤية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا يتسابقون لاستقباله، وينتظرون اليوم بعد الآخر لينالوا شرف ملاقاته، فما إن أطل عليهم بنوره حتى استبشرت النفوس وتهللت الأسارير وحلت الفرحة والبهجة والسرور في تلك القلوب التي أدركت عظمة ذلك النور قبل أن تراه، فشدوا وأنشدوا ابتهاجاً وفرحاً:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
فأصبح ذلك النور يسيطر على عقولهم ووجدانهم وآمنوا به وناصروه حتى سموا بالأنصار الذين ناصروا الله ورسوله، وكيف لا يحضون بشرف ذلك الاسم وهم من صدقه حينما كذبه الآخرون، وأووه حينما قاطعه الآخرون، وآمنوا به حينما كفر به الآخرون، ونصروه حينما حاربه الآخرون، فنالوا المكانة العالية عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لهم الدور الكبير والمهم في تأسيس الدولة الإسلامية وترسيخ دعائمها، في مكان لم يشهد وجود دولة من قبل، وأصبحت تلك العلاقة تزداد قوة بين النبي والأنصار، يزدادون قرباً وحباً من الحبيب المصطفى، ترجمته الكثير من الأحاديث التي قالها رسول الله في فضل أولئك القوم الذين نالوا تلك الدرجة الرفيعة بصبرهم وثباتهم وصمودهم حتى أصبح الإيمان يمانياً، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان يمان والحكمة يمانية". واستمرت تلك العلاقة المتميزة بين الرسول وأهل اليمن حتى عصرنا الحاضر الذي أصبحت تعاني فيه الأمة من جاهلية أسوأ من الجاهلية الأولى، وأصبحت تعاني من حالة خواء على مختلف المستويات، حتى وصل الحال ببعض أبنائها أن أصبحوا تابعين لمن يحارب الرسول والرسالة، بل الأسوأ من ذلك حربهم لمن حارب أعداء الله وأعداء رسوله، وكل من اتخذ منهم موقفاً عدائياً، ليتضح جلياً مدى خطورة المرحلة على الأمة الإسلامية، تلك الخطورة التي أدركها الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي –رضوان الله عليه- في وقت مبكر، وذكرها في الكثير من محاضراته ودروسه ونبه الأمة للخطر المحدق بها، وضرورة التمسك بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، واستنهضها لمواجهة الخطر القادم وما يجب أن تكون عليه.
فأصبح حب الرسول والتمسك به عنوان ثقافة هذا الشعب الذي يأبى أن يحيد عنها على الرغم من حجم المعاناة بسبب العدوان والحصار، فإنّ علاقته بخاتم الرسل ستظل تلك العلاقة المتميزة التي ورثوها عن الآباء والأجداد الذين كانوا عنوان المدد والنصرة للرسول والرسالة على مدى التاريخ حتى أصبحوا رمزاً في ذلك الحب والتعلق بالحبيب المصطفى الذي ما إن اقترب موعد مولده حتى أصبحت النفوس توّاقه لإحياء تلك الذكرى بما تستطيع من إقامة مظاهر الفرح والبهجة في كل بيت وحارة وشارع ومديرية ومحافظة، وازداد الاستنفار والتجهيز لإقامة الاحتفال بتلك المناسبة العظيمة، واستعداد الحشود للخروج في اليوم المشهود لإعلان الولاء لرسول الله في الوقت الذي دأب فيه الأعراب المنافقون ومن دار في فلكهم لتولي اليهود والنصارى والتطبيع معهم. وكما حرص أهل اليمن على إحياء سنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي غُيبت من قلوب المسلمين وعقولهم. وكلما اقترب الموعد، كلما ازداد هذا الشعب شوقاً ولهفة لحلول ذلك اليوم الذي تكاد الأرواح تطير شوقاً قبل حلوله، وكأنها ستلتقي بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك اليوم الذي سيكون يوماً استثنائياً لشعب استثنائي كان الرسول ولا يزال المعلم والقائد والقدوة والأسوة في كل مجالات حياته، وليقول بصوت واحد: "لبيك يا رسول الله". وليعلن مجدداً "نحن الأنصار لا زلنا على العهد يا رسول الله". وليظهر للعالم مدى تمسكه بنبيه، وليرد على الإساءات المتكررة إلى خير البشرية، وليقول للمتخاذلين بأن التخاذل لن يزيدهم إلا خسراناً مبيناً في الدنيا والآخرة، وأنّ العاقبة للمتقين الذين تولوا من بذكره والاحتفال به حياة القلوب وربيعها.