تتراكم ذنوب الإنسان، تتراكم أخطاؤه، تترك تأثيرها السيء على نفسه، على مشاعره، على تفاعله، على استجابته لله “سبحانه وتعالى”، على اهتمامه بما فيه الخير له، وتترك أيضاً تأثيراً سلبياً عليه في ميوله نحو الشهوات والرغبات والأهواء، وانجذابه نحو ما يوقعه في الهلاك، وتضعفه في مقاومته أمام التأثيرات الشيطانية، للمعاصي كل هذا الخطر على الإنسان.
ثم خطرها عندما تقع في أثرها المباشر على حياة الإنسان، سواءً في علاقته مع الله، فيما يفقده من رعاية الله، أو في نتائجها الخطيرة والسيئة على الإنسان في الدنيا، ونتائجها الخطيرة المهولة الرهيبة جداً في الآخرة، التي تجعل الإنسان يخسر رضوان الله، وجنته، ويتجه إلى عذاب الله إلى جهنم والعياذ بالله، ولذلك نحتاج إلى أن نطلب من الله المغفرة، وأن نسأله العتق من النار، عند الإنسان المؤمن اهتمام كبير بهذه المسألة: أن يسعى لفكاك رقبته من النار، أن يسعى للنجاة من عذاب الله.
لاحظوا قرأنا- فيما سبق في المحاضرات الماضية- قول المؤمنين الأبرار أولياء الله، وهم يتساءلون في الجنة عن أسباب نجاتهم، فعندما ذكروا أسباب نجاتهم وفلاحهم وفوزهم، كان من ضمن ذلك قولهم: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: الآية28]، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: 26-28]، كنا ندعوه.
الدعاء مهم جداً، الإنسان يحتاج إلى معونة الله، إلى التوفيق من الله، إلى الهداية من الله “سبحانه وتعالى”، أن يعينك على نفسك، أن يزكي لك نفسك، أن يساعدك في الاستقامة، أن يعصمك من المعاصي والذنوب الخطيرة والكبائر، أنت بحاجة إلى الله، إلى توفيقه، إلى هدايته، إلى رحمته، إلى فضله، فمهم أن يسعى الإنسان للاستعانة بالله، وأن يدعو الله “سبحانه وتعالى”، وأن يركِّز أيضاً في الدعاء على هذه النقطة: على العتق من النار، شهر رمضان آخره إجابةٌ وعتقٌ من النار، من الخسارة الكبيرة عليك أن ينتهي هذا الشهر، وأن تمر هذه الفرصة، وألَّا تحظى بذلك في كل شهر رمضان لله عتقاء من النار، إن لم تكن منهم؛ فأنت خاسر، أنت فوت فرصةً كبيرة، فوت فرصةً عظيمة، وقد تكون أهدرتها وراء أشياء تافهة، هنا معروضٌ عليك خير الدنيا والآخرة، الله يعرضه عليك، إذا أضعت هذه الفرصة، وأضعت هذا العرض، ولم تتفاعل معه وراء أشياء تافهة جداً؛ فأنت الخاسر، تريد خير الدنيا والآخرة مع بعض، هو هنا يعرضه الله عليك، يعرضه الله عليك، فلا تفوت هذه الفرصة.
المؤمنون يذكر القرآن عنهم في أدعيتهم اهتمامهم الكبير بالدعاء بالعتق من النار، من أهم الأدعية الجامعة في القرآن الكريم، وهو دعاءٌ جامعٌ ومقارب، ومختصر، وملخَّص، يستطيع أن يدعو به كل الناس: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية201]، {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، هذا دعاءٌ عظيمٌ جامعٌ وشامل لخير الدنيا والآخرة، ومختصر، وملخَّص، ويستطيع كل إنسانٍ أن يحفظه، وأن يدعو به، رجلاً كان أو امرأة يستطيع ذلك، وفيه الشمولية: يشمل خير الدنيا والآخرة، وآخره يركِّز على: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، هو من الأدعية المهمة التي يركِّز الإنسان عليها في مثل هذه الليالي المباركة.
وأيضاً نجد أنَّ الله “سبحانه وتعالى” ذكر عن عباده من أهم أدعيتهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان: 65-66]، مهمٌ أن يستفيد الإنسان من الأدعية القرآنية، ومن غيرها من الأدعية المأثورة، وأيضاً يمكن للإنسان أن يدعو حتى بلهجته العادية، بعباراته المختصرة، وأن يطلب من الله احتياجاته المهمة والأساسية، وأن يتضرع إلى الله “سبحانه وتعالى”، هذا شيءٌ مهمٌ جداً، والله قريبٌ من عباده، وقدَّم عرضه العظيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: من الآية186]، فقط يقول: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: من الآية186]، {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}، والإنسان يدعو وعنده توطينٌ للنفس على أن يستجيب لله؛ لأنك تستجيب لله فيما هو خيرٌ لك، فيما هو مصلحةٌ لك، فيما فيه فلاحك ونجاتك وفوزك في الدنيا والآخرة، هو لا يطلب منك شيئاً لنفسه ليستفيد منه، هو الغني عنك، الغني الحميد، وهو الغني الذي لم يترك عباده ويهملهم لغناه عنهم، في الدنيا الإنسان إذا استغنى عن شيء قد يتركه، ولا يبالي به، ولا يهتم به، ولا يلتفت إليه؛ لأنه استغنى عنه، أمَّا الله فهو الغني الحميد الرحيم، مع غناه عنا يقبل علينا برحمته وفضله.
ثم على مستوى أن يدعو الإنسان فيما يتعلق بشؤون نفسه: همومه، مشاكله، قضاياه الملحة الخاصة، واقعه الحياتي، يتعلق به أشياء كثيرة، فرصة مهمة جداً للدعاء والإقبال إلى الله “سبحانه وتعالى”، وكما قلنا هي فرصةٌ لا مثيل لها، فلا يفوتها الإنسان، ليغتنم هذه الفرصة، رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” روي عنه أنه كان يقبل إقبالاً كبيراً على العشر الأواخر، ويهتم بها، ويكثف أنشطته، واهتماماته العبادية فيها، على مستوى مضاعفة الأجر في الأعمال، فرصة كبيرة جداً، الله “سبحانه وتعالى” قال عن هذه الليلة: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر: الآية2]، عن ليلة القدر، ليلة عظيمة، عظيمة الشأن جداً، هذا تعظيمٌ لشأنها، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (3) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: 3-4]، فهي خيرٌ من ألف شهر، هي تعادل على المستوى الزمني أكثر من ثمانين عاماً، أكثر من ثمانين عاماً، عمراً بأكمله، فرصة عظيمة جداً، أنت عندما تحيي ليلة القدر، فكأنك أحييت أكثر من ثمانين عاماً، كأنك قمت عمراً بأكمله، أجر كبير جداً، يمكن للإنسان من خلال مضاعفة الأجر، إن اغتنم ليلة القدر، وقبل الله منه عمله، يمكنه أن يحقق نقلةً نوعيةً في واقعه العملي، أن يرتفع رصيده العملي ارتفاعاً كبيراً جداً، قد يكون مستوى عملك لا يزال محدوداً، لكن الله يعطي لك هذه الفرص، التي يتهيأ لك من خلالها النقلات الكبيرة، والارتفاع الكبير في رصيدك من الأجر والثواب، كيف تفوت هذه الفرصة، هذه تجارة مع الله “سبحانه وتعالى”، هذه نعمة عظيمة من الله، هذه من أبرز مظاهر رحمته وفضله، نعمل، يهيئ لنا على مستوى الزمن مراحل معينة، أوقات معينة، فيضاعف فيها الأجر تلقائياً، بمجرد أن يدخل شهر رمضان المبارك، تتضاعف الأعمال فيه إلى سبعين ضعفاً، حتى إذا أتت ليلة القدر، يتضاعف العمل مضاعفةً كبيرةً جداً، وهكذا، بما يعادل عمراً بأكمله، أكثر من ثمانين عاماً، فرصة عظيمة، ليلة، وقت زمني يدخل، فتتاح أمامك هذه الفرصة، وهذا- كما قلنا- يساعد على نقلات كبيرة جداً في رصيدك من الأجر والثواب، في عملك ومضاعفة أجورك.
ثم على المستوى الإيماني، على المستوى الإيماني، إقبالك على الله “سبحانه وتعالى” في ليلة القدر، مع قبول العمل، مع الدعاء، مع التضرع، يمكن أن يكون له أثره الكبير جداً على نفسك، أن تحظى في تلك الليلة برحمةٍ من الله يصلح بها نفسك، يزكي بها نفسك، أن تشعر على نحوٍ غير مسبوق بالأنس بالله “سبحانه وتعالى”، وبذكره، وبطاعته، وبالعمل بما يرضيه، فيتحقق لك من خلال ذلك، من تلك الرحمة من الله “سبحانه وتعالى”، نقلة كبيرة في واقعك النفسي، في واقعك النفسي، في سموك الروحي، في ارتقائك الأخلاقي، في ازدياد إيمانك، في شعورك بالقرب من الله أكثر، فترتقي إلى مصاف أولياء الله الذين يحظون برعاية كبيرة من الله “سبحانه وتعالى”، ويشعرون دائماً بالأنس والاطمئنان الكبير في إقبالهم على الله، وطاعتهم لله “سبحانه وتعالى”، فلا تفوت هذه الفرصة، لا تفوت هذه الفرصة، أقبل إلى الله “سبحانه وتعالى”.
على مستوى أيضاً مستقبل حياتك، ابتداءً في الدنيا، وانتهاءً بمستقبلك الأبدي الدائم في الآخرة، ليلة القدر هي ليلةٌ يكتب الله فيها ما يكتبه لك أو عليك، كما قال عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان: الآية4]، على مدى العام القادم سيكتب في هذه الليلة ما يتعلق بمصيرك، ما يتعلق بحياتك، في أشياء كثيرة جداً من حياتك على النحو التفصيلي، أنت بحاجة إلى أن تكون في تلك الليلة مقبلاً إلى الله؛ ليكتب لك الخير فيما يكتبه لك، ليكتب لك الفلاح والنجاة والفوز فيما يكتبه لك، ليكتب لك ما تأمله من فضله الواسع، من رحمته الكبيرة، فيما يكتبه لك، وليدفع عنك، فلا يكتب عليك وأنت في واقع المستهتر العاصي المهمل المفرط اللامبالي، يكتب عليك أشياء نتائج لإهمالك، لتفريطك، لعصيانك، من المصائب، والنقمات، والعواقب السيئة، أو يسلبك رعايته، أو توفيقه، أو رحمته، أنت بحاجة إلى أن تكون مقبلاً إلى الله، عندما تأتي هذه الليلة وأنت معرض، وأنت مهمل، فأنت لغيرها أضيع، أنت لغير هذه الفرصة من الفرص أكثر استهتاراً، وأكثر إهمالاً ولا مبالاة، فرصة بهذا المستوى، بهذه العظمة، بهذه الأهمية، فرصة ثمينة بهذا المستوى، لا تلتفت إليها، ولا تهتم بها، ولا تبالي بها، أنت لغيرها أضيع، فستكون أنت من الخاسرين، الذين يضيعون حياتهم، ويضيعون أعمارهم.
الإنسان على المستوى الشخصي بحاجة إلى الله “سبحانه وتعالى” فيما يكتبه له، وفيما يدفعه عنه.
والمجتمع كمجتمع، والأمة التي تتجه اتجاهاً معيناً، بحاجة إلى الله “سبحانه وتعالى”، فمع الإقبال والإنسان يطلب من الله المغفرة والتوفيق، والمجتمع أو الأمة التي لها اتجاه إيماني معين، مقبلة إلى الله، تطلبه المغفرة، تطلبه العتق من النار، تطلبه خير الدنيا والآخرة، تطلبه النصر، والعون، والتوفيق، والهداية، والسداد، والتأييد، والبركات… إلى غير ذلك، فهي لا تفوت هذه الفرصة، ستحظى بفضل الله، برعايته؛ لأنه ابتدأنا بعرض هذه الفرصة، ابتدأنا بهذه النعمة، ابتدأنا، وقدَّم إلينا، وأتاح بين أيدينا، هذه النعمة، فإذا أقبلنا، فلن يعرض، لن يتركنا، هو ابتدأ بالنعمة أصلاً، فكيف يعرض بعد الإقبال إليه، والرجوع إليه!
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة الدروس الرمضانية، بتاريخ 21 رمضان 1442هـ