ولهذا كانت أحداث هذا العصر غريبة جداً، ربما لم يأت مثلها في التاريخ: تُداس بِقَدَم وتُقَبِّل نفس القدم التي تدوسك، تُضرَب وتَسْتَجْدِي السلام من اليد التي تضربك!!. ما حصل مثل هذا.
كان في الزمن القديم كان يعرف هذا عدو تعرفه، وولي تعرفه، لا تستجدِي عدوك أنت تستجدي منه السلام، تحاول بأي طريقة ولو من باب مصالحة عادية بين طرف وطرف على أشياء واضحة، أما الآن فأصبحت مواقف غريبة، نحن نلعن اليهود والكثير يتولونهم، ونصرخ جميعاً نحن ومن يتولونهم منهم، ونستجدي السلام منهم، ونبحث عن الحلول من عندهم!! مبهمات كلها، ومواقف غريبة كلها.
ولهذا كان منطق القرآن الكريم فيما يتعلق بالموقف من اليهود والنصارى منطق يثير الدهشة فعلاً لأنه تتجلى مواقف غريبة مدهشة، تتولاهم وأنت تصرخ منهم!!، أي أنت لم تحصل على شيء من خلال توليك لهم، تتولاهم وتنفذ ما يطلبون منك وأنت عميل لهم، ثم في فترة من الفترات يركلونك بأقدامهم ويستبدلونك بشخص آخر. أو إذا ثارت الأمة ضدك لا تتسع بلادهم لك، هذا كما حصل لملك إيران، [شاه إيران] حصل له هذا، لم تسمح أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا له بالدخول إلى بلادها.
تولي يؤدي إلى خطورة بالغة، وليس من ورائه ثمرة ولا مصلحة، لا احترام متبادل، لا مصالح حقيقية متبادلة، ولا شيء.
إذاً أليست قضية خطيرة جداً؟. وغامضة جداً؟ خطيرة جداً عندما يقول لك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ما هو يشعر بأنك ما زلت مؤمن وتتولاهم؟ لأن هناك أعمالاً خطيرة جداً غامضة، ومن النوع الذي يتجه إلى أعماق النفوس فينعكس مواقف. بالغ الخطورة جداً في غايتها، أن تصبح ظالماً لنفسك ومشارك في ظلم البشرية كلها، أن تصبح تأخذ نصيبك من كل ما ذُمَّ به اليهود في القرآن الكريم، وعلى ألسنة عباد الله.
على الرغم من هذا كله، من خطورة المسألة {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وكأن الشيء هذا كله لا يلفت النظر ولا ينتبه له، ويقفز من فوقه. {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} لاحظوا إضافة [الفاء] في [فترى]، كأنه يقول لك: وعلى الرغم من هذا كله، من خطورة القضية، وغموض أساليبها، وخطورة نتائجها وغاياتها، التي هي في الواقع تدفع كل إنسان أن يكون بعيداً جداً جدا عن هذا، أو بطيئاً وهو ينطلق نحوهم على أقل تقدير، بطيئا وهو ينطلق نحوهم لكن لا، ترى من داخل المؤمنين من يسارعون فيهم. ماذا يعني يسارعون فيهم؟. يسارعون نحو توليهم نحو خدمة ضمائرهم، نحو تنفيذ خططهم, مسارعة، أليس هذا الموقف مضاد جدا لما كان ينبغي لأي إنسان مؤمن أن يكون عليه؟ أن يكون بعيداً جداً، جداً عنه أن يكون في نفسه أطرف ميل، أو أن يكون قلبه من القلوب التي يمكن أن تتعرض لأن تواليهم، ولو بأدنى ولاء؟.
لكن تجد هناك منهم؟. الذين في قلوبهم مرض.. ولاحظ متى حصل مرض في القلوب كيف يحصل ماذا؟ مسارعة إلى توليهم، فاليهود هم يعرفون كيف يشتغلون، هم يوجهون أعمالهم نحو القلوب، والمرض يتجمع، تتجمع أمراض من هنا ومن هنا، من مشاهدة التلفزيون، ومن قراءة صحيفة، ومن كلمة فلان، زعيم يتكلم, تتجمع، تتجمع فحصل مرض في النفوس، في القلوب.
بمعنى أن القلب السليم الذي هو مملوء بتولي الله ورسوله والذين آمنوا ما يمكن أن يميل إليهم، يبقى سليماً منهم، سليماً من هذه المخاطر الرهيبة.
ومرض القلوب يتجلى بعناوين متعددة قد يصبح نفاق، شك، ارتياب، إيثار لمصالح خاصة على الدين، إيثار لمصلحته الخاصة على الدين مما هو مرض مشين. عادة قد لا تحتسب فعلا أن يكون صادقاً من يدعي أنه من منطلق الحفاظ على المصلحة العامة، هذا ما يحصل من القلوب المريضة.
فمن يسارع فيهم في قلبه مرض، وغير صادق عندما يدعي أنه من أجل الحفاظ على المصلحة العامة، على مصلحة شعبه أو على مصلحة المسلمين، غير صادق. القلوب المريضة ليست هي من تهتم بمصالح المؤمنين بمصالح المسلمين، القلوب السليمة هي وحدها التي تهتم بمصالح المسلمين، هي التي تتجاوز خارج إطار وحدود شخصيتها، أما القلب المريض فلا يمكن أن يحمل اهتماماً بمصالح الآخرين؛ ولهذا يأتي بعبارة (يقولون) {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}. فنحن نحافظ على المجتمع من أن يحصل عليه ضربة.
عبارة (يقولون) مثلما يقول لك: يزعمون يتفوهون، والواقع أن هناك مرض، قد يكون هذا المرض جُبْن، نفاق، حب لهم، تأثر بثقافتهم يدفعه إلى أن يُنَفّذ مؤامراتهم، ويتولاهم، ثم يضفي على توليه لهم، ماذا. عنواناً كبيراً يقدمه وكأنه يخاف على المصلحة العامة، أو أنه حتى يخاف على نفسه، حتى أن يتفوه بأنه يخاف على نفسه، هو ممن في قلبه مرض.
لأن الله عرض قضيتهم في القرآن أنه متى ما أصبحتم ممن يحملون قلوباً سليمة ليس فيها مرض فستصبحون مؤهلين لدرجة أن يصبح واقعهم معكم على هذا النحو {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} (آل عمران:111).
المؤمن, من قلبه مملوء بالإيمان، من قلبه سليم، لا يمكن أن يخاف على نفسه منهم؛ لأنه يثق بالله، ويعلم بأن ما يقوله الله سبحانه وتعالى عنهم أنه حقائق، بل يكون قوياً عليهم، جريئاً عليهم.
هل أحد منكم شاهد [السيد حسن نصر الله] في التلفزيون وهو يتكلم بملء فمه، وبكل قوة وبعبارات تهز إسرائيل. ماهي عبارات مثلما يتكلم زعماء العرب الآخرين: كلمتين أو ثلاث، وسموه [فارس العرب].
كلمات مجاهد، كلمات شجاع، كلمات تحتها جيش من الشباب المجاهدين الأبطال، يتكلم كلمات حقيقية مؤثرة، وهو بجوارهم، وهو يعلم أن معهم قنابل ذَرِّيّة، وأن معهم صواريخ ومعهم دبابات، ومعهم كل شيء، لكن قلبه من القلوب المملوءة بتولّي الله ورسوله والذين آمنوا فأصبحوا حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، كما سيأتي عندما نصل إلى عند هذه الآية.
فمن في قلبه مرض هو من يخاف، فيدفعه خوفه إلى أن يقول: نحن خائفون على أنفسنا. {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أو نخشى أن تصيب المجتمع والشعب دائرة، لكن ذلك ليس في الواقع هو مبعث خوف، وليس هو في الواقع مبرر ادعاء اهتمام بمصلحة عامة، إنما سببه مرض.
أحياناً قد يكون الخوف الحقيقي مما هو مخيف حقيقة، قد يكون أحياناً مقبولاً، بل قد تأتي أحكام شرعية تسوغ تصرف معين تحت وطأة الخوف كما يقال: [التقيَّة] {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}(آل عمران: من الآية28) لكن مع هذا الجانب الذي يسارع فيهم يسارع فيهم يعني أن هذا عمل يدل على أن في قلبه مرض، وما يقوله من بعد معناه مرض يدفعه إلى أن يكون فعلاً متولياً لهم، إنما قضية أن يقول: [والله احنا خائفين على مصالحنا، أو خائفون على بلادنا]. إنما هي تغطية فقط، وإلا فواقعه أن في قلبه مرض، فهو يسارع فيهم.
ما معنى {فِيْهِمْ}؟ هي مثل {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}(الحج: من الآية78) يسارع في خدمتهم، في تنفيذ خططهم, في تنفيذ مؤامراتهم، في توليهم؛ لأن في قلبه مرض فهو يتولاهم.
هنا تأتي عبارة {يَقُولُونَ} بمعنى يتفوهون وكأنها عبارة فعلاً لهجتها أو صيغتها تفيد بأنها شيء غير حقيقي بالنسبة لواقعهم أنهم فعلاً يخافون على أنفسهم فعلا، أو يخافون على أمتهم، وإنما الذي دفعهم إلى المسارعة هو أن في قلوبهم مرض جعلهم يتولونهم.
إذاً فاليهود هم يشتغلون يشتغلون معنا كثيراً ليوجدوا في قلوبنا مرض، {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً}(المائدة: من الآية64) إلى أين يتجه هذا الفساد؟. ما هو بيتجه إلى النفوس أولاً؟ ثم ينعكس بشكل أعمال، إفساد في الأرض؛ لأنه حتى ما يحصل من إفساد في الأرض إنما يأتي عن طريق الإنسان نفسه.
السيد حسين بدرالدين الحوثي / رضوان الله عليه .
الدرس الأول من دروس المائدة / ص - 7 - 8 .