بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
صنعاء – 1439هـ
المقدمة
كانت لي مواقفُ ومقالاتٌ ونقاشاتٌ مناهِضة للصرخة، يعرفها مَنْ كان قريبا مني، نتيجةً للنفور من محاضرات الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي، وتجنُّب قراءتها بإنصاف، وبسبب تداعيات بعض الانتقادات التي أطلقها الشهيد القائد حول بعض العلوم، وانسياقا خلفَ سلطان الإلف والعادة، حيث يشهر سيف الرهبة، والرغبة، وحيث تأثيره الخطير على كثير من الناس، بالإضافة إلى طبيعة المهمة التي قد يلقيها عليك المجتمع، أو المؤثِّرون على وعيك، وهو أنك (حامي الحمى ومانع الذمار).
غير أن طابع تلك المناهضة كان في مجمله متَّسما بالاعتدال، والتسامح، كما يشهد لذلك بعضُ مضامين المقالات التي كتبتُها في تلك الفترة، والتي لا يزال حائطي على الفيسبوك يذكِّرُني بها بين الحين والآخر، المضامين التي لم تكن تكابر في مشروعية الصرخة، بقدر ما كانت تركِّز على الأخطاء التي ترافق عملية التوعية بها ونشرها وردة الفعل إزاءها.
لقد كان يحلو لي القول بأن التشدُّد في الفرض والرفض لها، لا أرضاه لنفسي، ولا لغيري.
ثم ابتعدتُ عن العواملِ التي صنعَتْ ذلك الموقف، فكبُر السؤال الذي كان يُلِحُّ عليَّ من أول يومٍ بضرورة الإجابة عنه، وهو لماذا نتشدَّدُ ضد الصرخة؟ وأي مشكلة دينية تنشأ عنها؟
وشيئا فشيئا وقد تخلَّصْتُ من معظم العوامل المذكورة سلفا، بتُّ أرى أثرَها الناجع، والمؤثِّـر، على العدو الأمريكي والصهيوني، حيث أصبحَتْ من الأمور المُزْعِجة لهم بشكلٍ واضح، وعلني، وقطعي، لكل من يتابع الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي، بالإضافة إلى قناعتي بكونها باتت عنوانا لمرحلة هامة من تاريخ اليمن المعاصر، ومشروعِه التحرُّري، النهضوي، فصار لدي قناعة راسخة بأن مناهضتها والاعتراض عليها صار أمرا غيرَ مُنصِف.
في ذكرى الصرخة في العام الماضي 1438هـ شرعتُ لأكتب آرائي حولها، وأجمع ما أعثر عليه من معلوماتٍ عنها، وعن أسبابها، وتأثيراتها، وأسباب مناهضتها، فتكوَّنت بين يديَّ مادة أمكن أن تُشكِّل عمادَ مقالاتٍ مطوّلة حولها، فأعلنتُ في حائطي أن (حمود الأهنومي سيردُّ على حمود الأهنومي بشأن الصرخة)، حتى لا يطال بعضَ الزملاء والأحبة - الذين لم ترق لهم بعد - شيءٌ من آثار تلك الدفاعات، وحتى لا يجد أحدٌ سببا في الدفاع عني مني.
ومع ذلك .. لم أرَ بونا شاسعا بين موقفي الأول والأخير؛ حيث لم أكن من المتشددين في البداية لأكون كذلك في النهاية؛ لهذا لستُ نادما على مجمل موقفي الأول، ولكن على بعض المواقف والتفاصيل التي كانت تشذ عن حالة التسامح، والاعتدال، ولقد حمدت اعتدال موقفي في البداية؛ لأنه كان وسيكون أحد الضمانات باعتدالي في الختام.
في مناسبة العام الماضي نشرْتُ على صفحات (صدى المسيرة) مقالتين مطولتين، أولاهما بعنوان (الصرخة في المساجد المفهوم والمشروعية)، وثانيهما (الصرخة في المساجد شبهات وردود)، قيل لي لاحقا: إنهما حظيا باهتمامٍ جيِّد من قبل القراء والمهتمين بالشأن الثقافي، وكثيرا ما طلب مني أصدقاءُ إرسالَهما إلكترونيا إليهم، وصولا إلى مناسبة هذا العام 1439هـ التي باتت على الأبواب، فإذا ببعض الإخوان يطلب مني جمع المقالتين في كتيِّب، وطبعها، لتعميم الفائدة، فاستحسنت الطلب، وأعدت قراءتها، وسارعت لترتيبهما على هذا النحو.
ومع أن القضية لم تكن بحاجة لكل هذا الأخذ والرد، لولا حالة التهويل التي خاضها المجتمع أثناء الحروب على صعدة وما لحقها، ولولا التورُّط في مواقفَ لا يرادُ التنازلُ عنها، بالإضافة إلى تلك العوامل التي أشرت إليها سابقا.
ما أهدف إليه وأتوقُّعه من هذا الكتيِّب أنه سيساهم في التأصيل العلمي لمشروعية القضية، وسينفي ما ردّده بعضُ المعترضين عليها، من أقوال ومواقف، لا تخرج عن المناكفات التي اتكأوا عليه للحفاظ على الأتباع والظهور بمظهر حامي الحمى، ومانع الذمار، وإن أُسْدِل عليها مسحة من العلم والفقه.
ربما لا يروق لمن يقرأه بإنصافٍ تصويرُ صرخةِ أفرادٍ في مسجد من مساجد الله على أنها نوعٌ من التعدِّي على ذلك المسجد أو على مرتاديه، أو أنه لونٌ من ألوان فرضِ الصرخة على الناس بالقوة؛ إذ المساجد لله تعالى، والفرض لا يكون إلا بإجبارِ الناس على الصراخ بها، أما مجرد أن يصرُخَ صارخٌ بدون التعرض للآخرين، فهذه ممارسة دينية لحقٍّ طبيعيٍّ مشروع إن لم يكن مفروضا، ومن يعتبر ذلك فرضا لأمرٍ خاص في مسجدٍ يعتبرُه ملكا له، فهذه إشكالية تبدأ معالجتُها بتصحيحِ وضعية المساجد لتكون لله فقط، ولا يفوتني توجيه التقريع لأولئك الذين يوزِّعون أوصاف النفاق على كل من لا يصرخون، وهم أولئك الذين نقف وإياهم في خندق المواجهة الفاصلة ضد أمريكا، ويمضون شهداء إلى الله تعالى.
المطلوب الأكثر إلحاحا هو أن يتحلّى المعترِضون بنوعٍ من المرونة حول الصارخين، وأن لا يعتبروا ذلك أمرا مخالفا للشريعة، ومناقضًا للدين الحنيف، وأنهم ليسوا بأيِّ حالٍ من الأحوال مقصودين بتلك الصرخة، حتى ولو حاول بعض السيِّئين تصويرَ الوضع على ذلك النحو، بل المقصود أمريكا، وإسرائيل، ومشروعُهما المدمر في المنطقة، وما نعيشه من عدوان خلال أربع سنوات جزء من تفاصيله.
لقد رتَّبت الكتيب في قسمين، القسم الأول بحَث مفهوم الشعار، ووظيفته، وتأصيله شرعا، والقسم الثاني كان عبارةً عن ردودٍ مطوّلة على بعض الشبه التي يتم طرحها من قبل المناوئين.
ونهجت في الكتيب المنهج البحثي، وسلكت طريق الحوار الفقهي، وأوردت الأدلة التي اعتبرتُها كافية على مشروعية القضية، وبعضها أدلة إقناعية، وبعضها مما يستلزِمه المعترضون عليها، ولا سبيل لهم إلى التهرب منها بحسب أصولهم ومبادئهم.
اعتمدتُ في المصادر على ما أورده الشهيد القائد من احتجاجاتٍ وأفكارٍ في بعض محاضراته، حيث لم أستوفِها، ثم على ما بدر لدي من أفكار، وما تذكرتُه سريعا فمَرَرْتُ عليه من مصادر التاريخ، وهو بعض الحوادث التي تحجُّ المعترضين، وتقطعُ أعذارهم.
أخيرا أسألُ الله أن يأخذ إلى الخير بنواصينا، وأن يبصِّرَنا عيوبَنا، وأن يهديَنا لما يُحِبُّ ويرضى.
ذكرى الصرخة في وجه المستكبرين- 1439هـ
صرخة أم شعار؟
كان من الطبيعي جدا أن أطلق الشهيد القائد السيد حسين الحوثي رضوان الله عليه على الشعار مصطلح (الصّرْخة) وهي في اللغة: "الصَّيْحَةُ الشَّديدَةُ. والصراخ: الصَّوْتُ، أو شَديدُهُ"؛ فقد كان لا بد من صيحةٍ شديدة، تكسر جدار الصامتين، وتوقظ النائمين في ذلك السبات العميق، وتُحدِث جلَبة كان لا بد منها للفتِ انتباهِ السادرين في ظلام تلك الوضعية البائسة.
لقد كانت (الصرخة) مصطلحا موفَّقا جدا في دلالتها اللغوية، والعرفية، بعد أن صارت عُرْفا خاصا، وكذلك في إيحاءاتها النفسية، والتربوية، والواقعية.
في محاضرته الأولى (الصرخة في وجه المستكبرين) ذكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي مصطلح (صرخة) 10 مرات، وذكرها مع اشتقاقاتها الاسمية والفعلية 32 مرة، لكنه لم يذكر كلمة (شعار) إلا مرة واحدة؛ إذ كانت البداية تقتضي أن يكون هناك صيحة شديدة تُدَوِّي في مناطق عديدة، لكن تدريجيا بدأ مصطلح (شعار) يحل محلها، ففي محاضراته التالية ندر أن تحدَّث عنه بلفظ (صرخة)؛ لأنه أراد بعد ذلك أن تكون شعارا، أي عَلَما لمشروعٍ استنهاضيٍّ كبير، هذا الشعار علَمٌ له، وعنوانٌ عريضٌ يُنْبئُ عنه، ومكوِّنٌ أساسٌ من مكوناته.
والشعار كما في كتب اللغة: "من الثياب ما وَلِيَ جسَدَ الإنسان دون ما سواه من الثياب، سمي بذلك لمماسَّته الشَّعَرَ"، قال الإمام علي عليه السلام في الثناء على أهل البيت وعلاقتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نَحْنُ الشِّعَارُ وَالْأَصْحَابُ وَالْخَزَنَةُ وَالْأَبْوَابُ)، يصفهم بأنهم الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنَّ غيرهم هو الدثار، وهو الجهة الخارجية للثوب.
و"الشعار أيضا في كتب اللغة: هو ما يُشْعِر الإنسانُ به نفسَه في الحرب، وشعار العساكر: أن يُسَمُّوا لهم علامة ينصبونها ليَعْرِفَ الرجل بها رفقته، وهو أيضا: علامة القوم في الحرب، وأشعَر القومُ به: نادوا بشعارهم، والشعار: العلامة، قال الأصمعي: ولا أرى مشاعر الحج إلا من هذا لأنها علاماتٌ له".
وظيفة الشعار تاريخيا؟
يبدو أن وظيفة الشعار تاريخيا كانت إعلامَ وإظهارَ توجُّهِ وهويةِ قائله في أثناء الحرب، حيث نجد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يَسْتَخدِم هذا الذي سمَّوه شعارا له: (يا منصور أمت)، و (أمت أمت) ، و(حم لا يُنْصَرون) إلا أثناء المعارك، (بل في مواجهة الأعداء)، وحَرِصَ كتابُ السير والتاريخ على تسجيل شعاره في كلّ معركة، ولعلها كانت من تكتيك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحربي الذي لم يكن معروفا عند الآخرين، ولهذا استغرب أحدُ المشركين في (معركة أحد) من ترداد المسلمين لهذه الكلمة (أمِتْ)، ثم لما أسلم تحدَّث عن ذلك الاستغراب.
لقد استخدموا هذا الشعار الحربي أثناء المعركة لتحقيق عدة أهداف، فأولها: هو الإشعار أي الإعلام لبعضهم بهُوِيَّتهم المتَّفَقِ عليها، فكانت بمثابة الشفرة وكلمة السر التي تستخدم باعتبارها إثباتا للهُوِيَّة، كما كان نوعا من التعبئة المعنوية للمقاتل المسلم، ليكون أكثر اندفاعا وإخلاصا في قتاله، حيث معنى: (يا منصور أمت) يا أيها المقاتل المنصور من الله هؤلاء الكفار أمامك فاقتل مَنْ شِئتَ منهم (أمِتْهُم)؛ تشجيعا وتعبئة معنوية، ومثله شعار: (حم لا ينصرون)، وهذا يبين رداءة فهم المنكِر لشعار (الموت لأمريكا) بأن فيه كلمة موت، رغم أن معناها الموت السياسي والإداري، وليس البيولوجي.
ويظهر أيضا أنه يُشْتَرَطُ في الشعار أن يكون محسوسا مسموعا أو مُبْصَرا، ليكون أقوى تعبيرا بنفسه عن أي شيء آخر.
طبيعة هذا الشعار
وبهذا التمهيد يمكن استلهامُ عددٍ من النقاط الهامة، وهو أن هذا الشعار أراد منه الشهيد القائد أن يكون شعارا لكل المسلمين، في مواجهة أخطر أعدائهم، وأنه أطلقه في إطار مسيرة مواجَهة شاملة لأعداء الله، وأنه أراد منه تلك الوظائف المذكورة للشعار وغيرها من الأهداف التي ليس الآن حالَ ذكرها.
أما طبيعته فهو صرخة في وجه المستكبرين في زمن السكوت والخنوع، وهو شعارٌ يميِّز المجاهدين الأحرار حاملي مشاعل الحرية، ومناوئي مشروع أمريكا والصهيونية في العالم الإسلام، سماه (صرخة)، ثم غلب عليه وصف (شعار)، إلى أن صار علما لهذه الصرخة المعروفة والمتداولة، فإذا أُطلِقَ تعيّن هذا المسمى، وتلك حقيقة العلَم حيث هو الذي يُعيِّن مسماه، وفي أحيان نادرة كان يتم وصف الهاتفين به بأنهم (كبّروا) و (يكبِّرون)، ومن ذلك جاءت النسبة الشعبية لهم بأنهم (المُكبِّرون)، أي الذين يطلقون كلمة (الله أكبر).
وعلى الرغم من أنه عنوانٌ للمشروع، إلا أنه أيضا كان جزءا منه، ومكوِّنا أساسيا من مُكَوِّناته، حيث المشروع كان عبارةً عن عملِ شيءٍ ما لمواجهة خطر أمريكا المُحْدِق ، وهو الهتاف بالشعار، والمقاطعة للبضائع الأمريكية والإسرائيلية، ويرافقُهما التوعية بمنابع الشر والفساد في الأرض، وبناءُ الأمة القوية المُعِدَّة لأعداء الله بما استطاعت، وتحصينُها من الاختراق ، وذكر السيد الشهيد أن الشعار بحاجة إلى توعيةٍ مُرافِقة، يُؤمَّل منها خلقُ وعيٍ ذاتيٍّ شعبيٍّ حتى لا يَسْبِقَ الأمريكيون بتسميمه بأفكارهم المدمِّرة وليؤتيَ أكله في إطار مشروعٍ نهضويٍّ كبير، هذا الشعار عنوانه.
لقد أوضح الشهيد القائد أنه سلاحٌ سهل وفعال، وكرر ذلك في محاضرات عديدة، وأنه في متناول الناس جميعا، وأنه لا يتطلَّب سوى دقيقةٍ واحدة في يوم الجمعة، وأنه في نفس الوقت سلاحٌ مؤثِّر ضد الأعداء، جُرِّب تأثيره في مناطق أخرى في العالم، ومنها إيران، وأنه يشكِّلُ حربا نفسية ضدهم، ويعطي نتائجَ إيجابية بحق الهاتفين به من الشجاعة والحصانة.
مشروعية الصرخة في المساجد
يتشكَّك أو يتلكّأ أو يتحرّج البعض من الصرخة في المساجد لعددٍ من الاعتبارات أو لبعضها، وتأصيلا لمشروعيتها أوردُ عددا من النقاط التي بعضها دليلٌ كاملٌ ووافٍ ومنطقي يزيل ذلك التشكك والتلكؤ والتحرُّج، وبعضها خطابي إقناعي، وبعضها مما يستلزمه أولئك المتشكِّكون والمتلكِّئون والمتحرِّجون، وهي كلها كافية لمن كان خاليا من التعصب أو التحزُّب.
1-إنها تعبيرٌ عن الإنكار على عداوة اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، وتعبير بالبراءة منهم، وموقف قولي وفعلي يرفض الموالاة لهم، وقد أمر الله بأن لا نتخذ اليهود والنصارى أولياء، وحذَّر بأن حكم المتولِّين لهم هو حكمهم، ولما كان هناك من يسارع إلى تولِّيهم وإلى حسن الظن بهم، والانخداعِ بهم، وهو أمر مرفوض في الإسلام، فكان لا بد من إظهار البراءة ضدهم، وفي هذه الحالة قد تصل حالة المشروعية إلى حالة الوجوب، وما هذا حاله فإنه يجوز في المسجد كما يجوز في غيره.
2- أمرنا الله في كتابه الكريم أن نتبرَّأ من أعدائه وهم كثيرون في القرآن الكريم، ولَعَن فيه الذين كفروا من بني إسرائيل، وعاب الكاذبين والظالمين والفاسقين، وقد تجمَّعت كلُّ صفات الشرور تلك في أمريكا وإسرائيل، فكيف لا نتبرَّأ ممن تبرَّأ منهم القرآنُ، وما يجوز في القرآن الكريم يجوزُ مثلُه في المساجد، وقد أشار إلى ذلك الشهيد القائد في إحدى محاضراته.
3- استدل الشهيد القائد بكونها أمرا بمعروف ونهيا عن منكر، وأنها نوعٌ من الجهاد، والله أمرنا بالجهاد ، وتلك الأمور تجوز أو تجب في المسجد مثلما تجوز أو تجب في غيره.
4- الشعارُ أثَّـر تأثـيرا كبيرا على العدو، وانزعاج الأمريكان بتوجيهات سفيرهم السابق في اليمن بمسحه وقلعه وسجن الهاتفين به دليلُ تأثيره عليهم ، بل والحروب الست التي شُنَّت بسببه، وهو عمل صالح ينال من العدو نيلا كبيرا ؛ ولهذا فهو مشروعٌ أيَّما مشروعية، في المسجد وفي غيره؛ قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة:120].
5- للمساجد قدسية عظيمة، وتكتسب الصرخةُ فيها الطابعَ العباديَّ الجهاديَّ الدينيَّ في نفوس المسلمين، وفي نفوس أعدائهم، بالشكل الذي يجعلهم يهابونهم بشكلٍ أكثر.
6- أمر الله في كتابه الكريم بقتالِ هؤلاء الأعداء، فكيف بالكلام عنهم وفضحِهم ومواجهتهم نفسيا، وتوعويا، وتثقيفيا، وتربويا، وقد أشار الشهيد القائد إلى ذلك في محاضرة (الشعار سلاح وموقف).
7-بالنظر إلى ما يرتكبه هؤلاء الأعداء اليوم بحق المسلمين من مؤامرات واختراقات، وصناعة مشكلات، وهندسة أزمات، بدافع العداوة المتجذِّرة فيهم للإسلام، ولأنهم أساسُ الشرِّ ومنابعُه، وهم أصلُ الفساد، ومؤجِّجو الصراعات المذهبية والطائفية والمناطقية، والساعون لتشويه الإسلام، وإمساكُهم بزمام أمور المسلمين، ونصبُهم عملاءَهم للحكم عليهم، وصناعتهم لما يسمى بـ(القاعدة وداعش) لضرب الإسلام وتشويهه؛ ولهذا ساءت أحوال المسلمين، وشاع الضلال فيهم، وفي هذه الحالة كما في كل حالة يجب على المسلمين أن يتقوا الله وأن يقولوا القول السديد، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70- 71]، وإن الصرخة في وجوههم ومواجهتَهم نفسيا لهو من القول السديد الذي أمرنا الله بأن نقوله، في كل وقت وكل مكان، وقد أثبتت الأحداث يوما بعد يوم سداد هذه الصرخة، وأفضل الأماكن المساجد، وأفضل الأوقات صلاة الجمعة، وقد ذكر ذلك العلامة المجاهد أحمد صلاح الهادي حفظه الله في آخر محاضرة (الإرهاب والسلام) بحضور الشهيد القائد سلام الله عليه.
8-نصَّ الفقهاءُ أنه لا يجوزُ في المساجد إلا الطاعات، وعليه فإن الصرخة من الطاعات التي تجوزُ في المساجد؛ لأنه لا يوجَد فيها كلمة واحدة محرَّمة من جهة، ومن جهة ثانية هي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي إعلان المعاداة لأعداء الله، وهي حربٌ نفسية على الأعداء، وكل هذا من صميم الطاعات، بل من أفضلها، إن لم يكن من واجباتها.
9-قال الله تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (النساءــ 148)، وإذا كان الله قد أذن بالجهر بالسوء عند حصول الظلم، فما بالُنا بالجهر بالحق، وبالكلمات والعبارات التي ليس فيها أيُّ سوء، بل هو الحق الصراح، والمنهج البيِّن الوضاح، ولا فرق في ذلك بين مسجدٍ ولا غيره.
10-يردِّد المسلمون أذكارا جماعية بصوتٍ جهوريٍّ، ومنها أدعية الجأر بالاستغفار والدعاء لله في الاستسقاء، مما يسمى (التوَّاب)، كما يقيم البعض الاحتفالات الدينية والتعليمية، وفيها الأناشيد الجماعية وما شاكلها، وما يحصل منها قد يكون من الفوائد الخاصة بأهل تلك القرية وتلك المنطقة، وليس هذا الشعارُ أقلَّ حقا منها في المساجد، على الرغم أنه مما يُدْرَأُ به كثير من المفاسد العامة، ويجلَبُ به كثير من المنافع العامة أيضا.
11-ثم ما الفرق بينها في المسجد وفي الساحات والمظاهرات والاجتماعات، فقد كان كثير من المنتقِدين لها يصرُخون في الساحات في 2011م ويردِّدون شعاراتٍ كثيرةً بعد صلاة الجمعة، وبعد الجماعات، وكانت المساجد الداخلة ضمن الساحات يُهْتَف فيها بتلك الشعارات، بل كانوا يصِفون خصومَهم السياسيين بعبارات تصفهم بالسوء الشديد، في الصلاة وأثناء الدعاء عليهم، ولا يملك المصلون خلفهم إلا ترداد كلمة (آمين).
12-كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُخَطِّط للمعركة في المسجد، وفيها القتل والقتال، وكان يُحَرِّض فيها المؤمنين على القتال، وذلك كله أوقعُ وأهمُّ من مجرد هتافاتٍ ثقافيةٍ وتربويةٍ ونفسية.
13-أمر الله نبيه أن يقول لليهود: (قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ) [آل عمران: 119]، وجاء هذا الأمرُ بعد ذكرِه لعمليةِ المخادَعة الصادِرة عن اليهود، ولذا وجَّهه الله تعالى توجيها حكيما وسهلا بأن يقول: الموت لهم، وهو أمر متكرِّر من يهود اليوم؛ لهذا فمن الحكمة أن نقول لهم ذلك القول اليوم، كما أن الله سبحانه وتعالى حين أخبر عن حرصهم على الحياة، وخوفهم الشديد من الموت، وأنهم يفرون منه، أمر الله نبيه أن يقول لهم (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة: 8]، وهذا في القرآن، وما هو في القرآن يجوز في المساجد وغيرِها بالأولى.
14- صرَخ أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بشعاراتٍ ثوريةٍ عسكريةٍ في المساجد وبشكلٍ جماعي، بل صرَخ بعضُهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فحين أعلن الإمام الحسين بن علي العلوي الفخي (ت169هـ) ثورته في المدينة على بني العباس دخل فتيانُ آل محمد وخيرتُهم المسجدَ النبوي فجرا، وصرخوا فيه بشعار (أحد أحد)، بل وأمر أحدُهم المؤذنَ أن يؤذِّن بـ(حي على خير العمل) التي هي شعار أهل البيت الخاص بهم أيضا، مع أن كثيرا من المصلين والحاضرين لم يكونوا على مذهبهم، ولا على توجُّهِهِم السياسي والثوري ، وكان ذلك في وجه العباسيين المسلمين، فما بال البعض تزعجه صرخة في وجه اليهود والنصارى المعتدين؟!.
15-وهناك شعارات مذهبية خاصة، يُطْلِقُها ويمارسُها بعضُنا، مع عدم رضا بقية المصلين من المذاهب الأخرى، ومع ذلك لا أحدَ يمنعُهم منها، فمن شعارات أهل البيت: قراءة البسملة أول كل سورة من سور القرآن، والأذان بحي على خير العمل، وإرسال اليدين في الصلاة، وترك التأمين، وقراءة آية الكرسي بعد الصلاة، كما أن شعار الفرق الأخرى، إسقاط بسم الله الرحمن الرحيم، وترك حي على خير العمل في الأذان، والضم والتأمين، وكل مذهبٍ يمارسُ شعاراته المذهبية بكل اطمئنان، فلماذا ينزِعج البعض إذا سمع شعارا عاما ينبغي للأمة جميعا أن تتوحَّد فيه وأن تصرُخ به، ولا سيما وقد رأينا عداوة أمريكا وانخراطها المباشر في العدوان على اليمن، وعلى شعوب عربية وإسلامية كثيرة.
16-هو نوع من المواجهة الثقافية والتربوية والنفسية لأمريكا التي تهدِّد دول الإسلام والمسلمين جميعا، وإطلاقُه في الاجتماعات التي تعكِس مظاهرَ القوة للمسلمين كما إطلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابِه وأهلِ بيته للشعارات في الجبهات لإظهارِ قوتهم، ومعنوياتهم العالية، ولأنه المعرِّف بهم، وهو حرب نفسية عليهم، وهي مما وجب علينا أن نقوم به اليوم ضدهم وفي مواجهتهم ولا سيما وقد رأينا هذا العدوان السعودي الأمريكي علينا بهذا القبح والبشاعة، وهذه المواجهة والحرب النفسية عليهم تجوز في المساجد أكثرُ من جوازِها في غيرها.
17-وحتى لو لم يكن للشعارِ أشباهٌ ونظائرُ في تاريخ الإسلام بل كان من مستجدات هذا العصر، ورأينا فيه سلاحا ماضيا على أعداء الله ورأيناه مؤثِّـرا فيهم على النحو الذي يساعدُنا على النصر، فإنه يجب علينا استخدامُه وتوظيفُه توظيفًا جيدا، والإفادة من مردوداته التربوية والنفسية والثقافية.
18-وإذا كان هناك من يعتقد أن الصرخة شعارٌ خاص وحصري بأنصار الله فهذه مشكلتُه لا مشكلة أنصار الله، لأن الشهيد القائد طرح هذا الشعار ليكون لكل المسلمين في مواجهة مشروع أمريكا العدائي للإسلام والمسلمين. وهناك من الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية مَنْ يصرُخون بهذا الشعار وهم لا ينتمون أبدا إلى أنصار الله كمكوِّن من مكونات المجتمع اليمني.
19-أصبح الشعار الآن علما وعنوانا للأبطال المقاوِمين للعدوان السعودي الأمريكي وللمجاهدين الأحرار في الجبهات، بل بات جزءا من أسلحتهم التي يطلقونها على أعدائهم في كل معركة، وليس خفيا أن كثيرا من الأعداء ما إن يسمعوا الصارخين في بداية المعركة حتى يصابوا بالرعب، والخوف، ومن باب الإعانة لهم والمواساة والاعتراف بفضلهم أن نردِّد ما يردِّدون، وأن نصرُخ بما يصرُخون، وصدق الإمام الحسين الفخي حين قال:
ويعجبُني المرءُ الكريمُ نِجارُه ** ومَنْ حين أدعوه إلى الخير شَمَّرا
يعينُ على الأمرِ الجميل وإن يرى ** فواحشَ لا يصبرْ عليها وغيَّرا
وهناك كثير مما يمكن قوله، غير أن من لم ينفعه القليل لن ينتفع بالكثير.
شبهات وردود
يورد بعض المعترضين على الصرخة شبَهًا في مُجْمَلِها تعارِض أو تناوِئُ أو تكرِّهُ أو حتى تحرِّم الصرخة في المساجد، كما يفهم من مِسْحة غلوِّها، وغبار نقْعها، وما يثير الغرابة أن مَنْ يطرح هذه الشبه على غلو ما فيها، قد أكثر على مسامعنا حديثا نقده للغلو، فإذا هو بطرحه هذه الشبه يمارس الغلو من موقع الواعِظ التقي الحريص على هذه الأمة من الانغماس في وحل الغلو وظلماته؛ وهو مسلك مفخَّخ بالازدواجية التي كان ينبغي أن لا يقع فيها بعض هؤلاء المعترضين.
أما أهم الشبه
التي يوردها بعض هؤلاء الغلاة فهي:
1-قولهم: "الصراخ وارتفاع الأصوات بشكلٍ عامٍّ أمرٌ تستهجنه النفوس، وتنزعج منه الأسماع، و تَمقُته العقول، ويُنكِره الشرع".
2- قولهم: "ويتعارض مع آداب المساجد والصلاة؛ حيث الأصل فيهما الخشوع والسكينة والوقار".
3- قولهم: "الشارع لم يُشرِّع غيرَ الإقامة بعد الخطبتين، وأن ابتداعَ غير ما شُرِعَ أمرٌ هو في الحقيقة مخالفة للشارع".
4- قولهم: "ارتبط الشعار والصرخة بثقافةٍ معيّنة لشريحةٍ معينة، وأصبحت رمزا وعلَما لهذه الشريحة، بغضِّ النظر عن أي اعتبارات أخرى يراها حملة الشعار تعبِّر عن قناعتهم بهذه الثقافة والشعار اللذين يعبران عن مَنْ يقتنعُ بهما فقط، ولا يُعبِّران عن كل الشعب اليمني، فإذا كانت هذه الشريحة جزءًا من المجتمع اليمني وليست كله فإن فرضَ شعارِها على أيِّ كيانٍ آخَر يعتَبَر إقصاءً".
الرد على الشبهة الأولى: الصراخ في ميزان النفوس والأسماع والعقول والشرع
ردا على الشبهة الأولى، التي تقول: إن الصراخ بشكل عام "تستهجِنه النفوس، وتنزعِج منه الأسماع، و تمقتُه العقول، ويُنكِره الشرع"، أقول:
1-إن هذه دعوى فضفاضة وعامَّة، وتحمِل مغالطاتٍ وتلبيسات لا تنبغي لطالب علم، لا سيما والسياق سياق الصرخة في المساجد ضد أمريكا؛ والأعجب أن قائلها حَكَم قاطعا بذلك الحكمِ المتسرِّع، وصادر ما لدى الناس من أسماعٍ وعقولٍ ونفوسٍ وما يعرفونه من شرعٍ، حاشدا إياها إلى صفّه لتحارب بشراسة تلك الصرخة الحرة، الصرخة التي صارت مَعْلَمًا من معالم ويوميات أحرار اليمن، وعنوانا لأفضل مجاهديه.
2- يمارس الناسُ عمليةَ النداء لبعضهم بعضا بالقدر المحتاج إليه من الجهر، بل وبالميكرفون، وتطرَبُ أسماعهم لزاملٍ أو أنشودة، فلا يزال الطفل يستزيد من صوتها علوا وارتفاعا، ولا إنكار لا بشرعٍ ولا بعقلٍ. ويخطب الخطيب والمحاضر في المسجد، ويرفع صوته الذي يردِّد صداه الميكرفون، فمرة يخفِض ومرة يرفع، وليس هناك من منكِر لذلك، بل يعتَبر مُحسِنا ومجيدا لفن الخطابة.
ويَستحِبُّ الإسلامُ بجميع مذاهبه أن يكون المؤذِّن صيِّتا، ولهم حديث يسندونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، ولأنه إعلانٌ بالصلاة، وكلُّ إعلانٍ يجب أن يكون بالقدر الكافي في مدى الجهورية لمن يرادُ وصول ذلك الإعلان إليه؛ ولهذا استعانوا بالمكبِّرات الصوتية.
وكذلك المدرِّس للعلم ولأصوله وفروعه وحتى لعلوم اللغة وعلوم الآلة يجهَرُ بصوته في المسجد هو وطلابُه المناقشون بالقدر الذي تحتاجه الحالة تلك، ومنهم من يفعل ذلك في الوقت الذي في المسجد مصلون يصلون الفرائض، وهذه أمثلة لكثير من الأمور المستحْسَنة عقلا، والمرغوبة نفسا، والمناسبة سماعا، والمشروعة شرعا.
3- لا أدري أين سيذهب هذا المعترض فيما رواه الإمام الهادي في مجموع رسائله عن موسى عليه السلام، حيث قال: "وصاح، وكان صيِّتاً شديد القلب، شديد القوة: يا بني إسرائيل هذا الفعل الذي يقلبكم على أعقابكم عند القتال"، وبما رواه السيد العلامة الحجة مجد الدين المؤيدي في لوامع الأنوار أن العباس بن عبدالمطلب في يوم حنين "نادى: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة ـ وكان رجلاً صيِّتاً، قيل: إنه كان يُسْمَع من ثلاثة أيام، وأنه نادى مرة في مكة: واصباحاه؛ فأسقطت الحوامل، وأنه كان يصيح على السبع فتنفتق مرارته؛ ذكره في الكشاف ـ فأقبلوا كأنهم الإبل يقولون: لبيك لبيك". وبما رواه في شرح نهج البلاغة عن الإمام علي في يوم الجمل، حيث صاح في أصحابه: "ويلكم .. اعقروا الجمل فإنه شيطان، ثم قال: اعقروه وإلا فنيت العرب، لا يزال السيف قائما وراكعا حتى يهوي هذا البعير"، وحوادث كثيرة من المعيب تعدادُها وإيرادها من أجل توضيح الواضحات.
4- لم يتذكّر المعترض وهو يُطْلِقُ ذلك الحكمَ الأجوفَ أننا وإياه كنا ولا زلنا نصْرُخ سويا بذات مقدارِ درجةِ الصوتِ التي نصرُخ بها في الشعار، نصرخ جميعا في الساحات وفي المظاهرات ضد أمريكا، وضد إسرائيل وآل سعود، وإن بشعاراتٍ أخرى، وبـشعار (هيهات منا الذلة)، و (لبيك يا شهيد) وغيرها، فهل هذا أيضا مما تستهجِنه النفوس، وتنزعج منه الأسماع وتمقته العقول، وينكِره الشرع؟ فإن كان ذلك كذلك فلماذا لا نجد متحمِّسين لإنكار هذا المنكر؟ بقدر ما نجد متحمسين لإنكار الصرخة؟ ولماذا يسمح المعترض لنفسه ولجماعته بالوقوع في هذا التناقض، والمنكر الذي بزعمه تستهجنه النفوس!!، وتمقته العقول!!، ويُنْكِرُه الشرع؟!!
5- يفهم من حيثية كلام صاحبنا المعترض عن الصرخة بشأن ارتفاع الصراخ .. أنه يجوِّز أن يكون هناك جهرٌ بالشعار، ولكن بغيرِ ارتفاعِ أصواتٍ، أي بأن يكون بأصواتٍ خافتة وضعيفة ومتماوتة، لكنه يعلم خير العلم أن الموقف موقفُ إظهارِ موقفٍ قويٍّ وجادٍّ وحازِم، وأيُّ موقفٍ ضعيفٍ فهو غيرُ جديرٍ ولا خليقٍ بقومٍ يريدون إظهار قوتهم ضد أمريكا اللعينة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله امرءًا أراهم اليوم من نفسه قوة).
6- للأسف فهناك من المعترضين على الشعار بشعارات منافِسة جيء بها على طريقة: (اقتلوني ومالكا .. واقتلوا مالكا معي)، وهناك من القوم الذين يرضى عنهم هذا المعترِض مَنْ يصرُخ بشعاراتٍ مناوئةٍ للصرخة في المسجد، ثم لا نجد من أيٍّ من أصحابِنا هؤلاء حماسا يُذْكَر في إنكار رفع الأصوات والصراخ والاستهجان لها.
وبهذه الإلزامات يتبيَّن أن الصراخ ورفع الأصوات ليس مكروها دائما، ولا الأصل فيه الكراهة حتى يدل دليلٌ على خلافه، بل الأصل إطلاق الصوت والجهر المناسب، بقدر الحاجة والحالة، كما يدل عليه كلام المولى الحجة المجاهد فقيه القرآن السيد بدر الدين الحوثي الذي سيأتي لاحقا.
7-في نصوص القرآن الكريم وردت المخافتة في مقام الاحترام، وورد الجهر في مقام العداء؛ فلأن المقام مقام تعظيم وتبجيل، أمر الله تعالى عباده بقوله: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:205]، وقال عن حالة يوم القيامة: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [طه: 108].
وكذلك تحدَّث عن مقام النبوة الكريم بما يقتضي خفض الصوت حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات: 2-3].
وبالمقابل فإن مقام الشر المكروه قد يقتضي منا تخشينَ الصوت ورفعَه وجهوريته؛ ولهذا حين تحدث الله في كتابه المجيد عن الكفار والمنافقين أمَرَ بالغلظة عليهم، فأمر نبيه بذلك في سورة التوبة بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 73]، وكرَّر الأمر على المؤمنين في ذات السورة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غلظة) [التوبة: 123]، وقال أيضا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم: 9]، والغلظة تكون بالقول وبالفعل.
ومن الطبيعي جدا أن يصرخ الأحرار في وجه أمريكا بغلظةٍ وصوتٍ خشِنٍ وجهوريٍّ؛ لأن القرآن أراد ذلك منا، وعقولنا تحسّن ذلك، وأسماعُنا تستسيغه، وها هو شرعُنا الكريم يدل عليه.
8- أما معنى غض الصوت
في عظة لقمان لابنه في الآية:(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19] فذلك يشرَح أدبا من آداب التخاطب بين الناس، وأنه ليس للإنسان أن يرفع صوته إلى مستوى درجة أصوات الحمير؛ قال المولى العلامة المجاهد فقيه القرآن بدر الدين الحوثي رحمه الله: في (التيسير 6/ 21): "واغضُض من صوتك بترك رفعه رفعا شديدا؛ ولذلك قال: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)، وإنكاره بسبب شدته على سمع الحاضر لديه، وهذا في غالب الأحوال، حيث لا حاجة لشدة رفع الصوت، فأما مع الحاجة فيحسُن، مثل نداء العباس [يوم حنين]: يا أصحاب الشجرة للذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا في حنين قد فروا، فلما سمعوا النداء رجعوا وقاتلوا، وكذلك الأذان للصلاة حيث لا يوجد مكبِّر الصوت، والأصل رفع الصوت بالأذان، وكذلك في الخطبة لقوة الإنذار والتخويف عند الحاجة".
إن الصوت يمثل وسيلة لتسهيل عملية التخاطب والتفاهم بين الناس، فيكفي فيه القدرُ المحقِّق لذلك ارتفاعا أو انخفاضا، فما زاد على القدر اللازم تحوَّل إلى سفَهٍ وإزعاجٍ للآخرين، وما نقص عنه كان قصورا مَعِيبا مُعْنِتا لا يرتضيه العقلاء.
لكنه قطعا حين يكون رسالة إلى الأعداء ووسيلة لكسر الصمت والخوف وتعبيرا عن موقف الحق الشجاع، وصناعة للوعي، وتربية للأجيال على خشونة المواجهة لأعداء الله؛ فإن الحالة تقتضي أن يكون بالصوت القوي الفاعل كما تقتضيه آداب الإسلام في حالاتٍ مشابهة، وكما عليه جميع الأمم والشعوب في هذا العالم، حين يطلقون شعاراتهم أثناء التدريب للمقاتلين، ورفع معنوياتهم.
9- الصرخة جهر المظلومين
في سورة النساء بعد أن شوّه القرآن حالَ المنافقين "وشهّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً ، .. بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله، وبغضاً للملموزين به، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن ، ونَهى المسلمين عن القعود معهم" أذِن الله للمظلوم أن يَجْهَر أيَّ جهرٍ بالسوء من القول، فقال تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء: 148].
والجَهْرُ: رفعُ الصوت بالكلام، ويعمُّ كلَّ جهر، فللمظلوم استخدام جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، ولكن مديات هذا الجهر تكون بحسب الحالة والمقام كما تقدَّم، والسوء من القول: يعم الشكوى من الظالم، والدعاءَ عليه جهرا، وغِيبته، بل ويعم حتى كلمةَ الكفر ونحوَها مما يقوله المُكْرَه، وقلبه مطمئن بالإيمان.
ومعنى الآية: لا يحب الله جهْرَ أحدٍ بالسوء إلا مظلومٍ، والمستثنى منه فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي، المفيد للعموم، أو يكون المستثنى مضافاً محذوفاً، أي: إلاّ جَهْرَ من ظُلِم.
وفي واقع هذا العالم لا نكاد نجد مظلومية أشدَّ من مظلومية الشعوب الإسلامية، ولا نجد ظالمين أكثر ظلما من الأمريكيين والصهاينة، وإذا كان الله قد أذن بالجهر بالسوء من القول، فما بالُنا نضيق بالجهر بالحق، وبالكلمات والعبارات التي ليس فيها أي سوء، بل هو الحق الصراح، والمنهج البيّن الوضّاح، ولا فرق في ذلك بين مسجدٍ وغيرِه؛ لأن الجهر بالشعار يحمِل وظائفَ متعدِّدة في وجوه أولئك الذين يركِّزون على دراسة النفسيات؛ ولهذا فمن الحكمة أن يُطْلِقَه المظلومون، وأن يجهروا به بقوة وبمدىً يعكس مدى جِدِّيتهم وتفاعلِهم مع محتواه.
10-صراخ الزيدية بالشعارات تاريخيا
تقدَّم الحديث عن مفهوم الشعارات وكيف استُخدمت في الإسلام في أول الكتيب، ومع ذلك بين يديَّ موقفان تاريخيان لكبار أئمة الزيدية، تبيِّن أن الشعارات هامة في مسيرة الثوار الأحرار، وأنه من المهم الجهرُ بها، وأنها مشروعة حتى في المساجد، بل أُطْلِق أحدُهما في المسجد النبوي في المدينة المنورة، فكيف بغيره من المساجد؛ وبالتالي فلا انزعاج نفسي، ولا مقت عقلي عرفهما أهل البيت عليهم السلام، ولا مانعَ شرعيَّ منعهم من ذلك.
أ-الموقف الأول ترويه الأمالي الإثنينية عن الإمام زيد عليه السلام عند إعلانه ثورتَه في الكوفة، أن جميع أنصاره صرخوا بشعاره: (يا منصور أمِتْ)، وأنه أرسل رجلين لرفع شعاره في أجزاء أخرى من الكوفة، وكان أحدُهما صيِّتا، وهو أمرٌ يشير إلى أهمية التصويت بالشعار، كما أعلن أحدُهم ذلك الشعار من رأس مئذنة.
تقول الرواية: "فَخَرَجَ الإمام زيد لَيْلاً، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فِيْ لَيْلَةٍ شَدِيْدَةِ الْبَرْدِ، مِنْ دَارِ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَرَفَعُوا الْهَرَادِيَ وَالنِّيْرَانَ، وَنَادَوْا بِشِعَارِهِمْ شِعَارِ رَسُوْلِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-
: (يَا مَنْصُوْرُ أَمِتْ)، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا بَعَثَ زَيْدَ عليه السلام الْقَاسِمِ بْنِ فُلاَنٍ التَّبعِيُّ وَرَجُلاً آخَرَ يُنَادِيَانِ بِشِعَارِهِمَا، ...، قَالَ سَعِيْدٌ: وَلَقِيَنِي أَيْضاً وَكُنْتُ رَجُلاً صَيِّتاً أُنَادِي بِشِعَارِهِ.
قَالَ: وَرَفَعَ ابْنُ الْجَارُوْدِ زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْهَمْدَانِي هُرْدِياً مِنْ مِئْذَنَتِهِمْ فَنَادَى بِشِعَارِ زَيْدٍ".
ب- صرَخ أهلُ البيت عليهم السلام بشعاراتٍ ثورية عسكرية في المساجد وبشكل جماعي، بل صرخ بعضُهم في مسجِدِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد روى أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل، والشهيد المحلي في الحدائق، أنه لما أعلن الإمام الحسين الفخي (ت169هـ) ثورته في المدينة على بني العباس دخل فتيانُ آل محمد وخيرتُهم المسجدَ النبوي فجرا، وصرخوا فيه بشعار (أحَدٌ أحَد)، بل وأمر أحدُهم المؤذنَ أن يؤذِّن بـ(حيَّ على خيرِ العمل) الذي هو شعار أهل البيت الخاص بهم أيضا، مع أن كثيرا من المصلِّين والحاضرين لم يكونوا على مذهبهم، ولا على توجههم السياسي والثوري، ومع أن ذلك كان في وجه العباسيين المسلمين، فكيف سمح البعض لسمعه أن يكره ما لم يكرهْه أهلُ البيت، وجوّز لعقله أن يُنكِر ما لم تنكره عقولهم، ونقل عن الشرع ما لم يعرفوه عنه.
الرد على الشبهة الثانية: شبهة معارضتها لآداب المساجد والصلاة
قال المعترض: "ويتعارض مع آداب المساجد والصلاة حيث الأصل فيهما الخشوع والسكينة والوقار".
وهذه مجرد دعوى أيضا لا ينتصب عليها دليل، للأمور التالية:
1-ذلك أنه يردِّدُ المسلمون في المساجد - بما فيهم المعترِضون على الصرخة - أذكارًا جماعية بصوت جهوري، ومنها أدعية الجأر بالاستغفار والدعاء لله في الاستسقاء، مما يُسَمَّى (التوَّاب)، كما يقيم البعض الاحتفالات الدينية والتعليمية وفيها الأناشيد الجماعية وما شاكلها، وليس هذا الشعار الذي يتطلَّب دقيقة من الوقت، أقل حقا منها في المساجد، وهي التي تحتاج لعشرات الدقائق أو لعدد من الساعات.
2-وبعض تلك الأذكار والأقوال هي شعارات مذهبية خاصَّة، يُطْلِقها ويمارسها بعضُنا، مع عدم رضا بقية المصلين من المذاهب الأخرى عنها، ومع ذلك لا أحدَ يمنعُ أحدا منها، وإذا حاول الوهابيون منْعَنا منها وصَمْناهم بالتعصُّب، فمن شعارات أهلِ البيت (قراءة البسملة في أول السور في الصلاة)، و(الأذان بحي على خير العمل)، و(قراءة آية الكرسي)، و (الصلوات الإبراهيمية) بعد الصلاة، وكذلك يجهر المسلمون بالتسبيح والتحميد والتكبير وأذكار بعد الصلوات، وهذه الأخيرة كلها تُرْفَع بأصواتٍ جهورية، وتذاع في مكبِّرات الصوت، فهل تذكَّر صاحبُنا المُعترِض أن يُدْخِلَها في خانة الاستهجان والإنكار والمنع والانزعاج.
كما أن شعار الفرق الأخرى، إسقاط بسم الله الرحمن الرحيم، وترك حي على خير العمل في الأذان، والضم والتأمين، وهم يؤدُّونها كما يحِبون، ولا أحد يعترض عليهم أو يحاول منعَهم.
3-كل طاعة من طاعات الله يمكن فعلها في المساجد، وبالتالي فلا تتعارض مع آدابه، ولا مع الخشوع والسكينة والوقار في حال الصلاة، إذ ليس في كل وقت يكون فيه المسلم في المسجد يكون مصليا، وهناك من الأمور العبادية مطلوب فيها الجهر، وهو لا ينافي الخشوع، فالأذان والصلاة الجهرية مطلوب فيهما الجهر، ولم يكن بالضرورة منافيا للخشوع.
والصرخة لا تعارض السكينة والخشوع والوقار؛ إذ تلك الأمور تكون في حضرة الله عز وجل، ومن يكون خاشعا لله فإنه لا بد أن يكون من المباينين لأعدائه، وحال الصارخ من الخشوع والسكينة والوقار كحال المؤذن وهو ينادي للصلاة.
4- وكيف يكون الجهر في المساجد مما يُسْتَنْكَر، وكثير من العبادات والطاعات مما يُجْهَرُ بها في المساجد، وقد جهَرَتِ الملائكة بالنداء لنبي الله زكريا وهو قائم يصلي في محرابه، قال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 39]، والنداء: رفع الصوت وظهورُه كما ذكر ذلك الأصفهاني في مفردات القرآن، وكما يدل عليه لفظ (ناديتم) و(ينادونك)، و (نودي) في قول الله تعالى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً)
[المائدة: 58]،
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [الحجرات:4]، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة: 9].
فهل غاب عن عقلِ وسمعِ وشرعِ الملائكة وعن نبي الله زكريا ما حضر المُعتَرض؟! أم أن هناك خللا في الاستدلال، وارتباكا في الموقف؟!
5- صرخ وصاح قومٌ صالحون في المساجد بالنهي عن المنكر، قومٌ نُكِنُّ لهم جميعا - نحن والمعترضون على الصرخة - الاحترامَ والتقديرَ ونُشيدُ بمواقفهم تلك ونعتبرُها منهم أمثولة حسنة نقتدي بها، فمن ذلك ما رواه الزحيف في مآثر الأبرار في أخبار حِجر بن عدي أنه كان يعترض على اللاعنين للإمام علي في المسجد، يقول الزحيف عن حجر وهو يعترض على الوالي الأموي في الكوفة: "فقام حجر وصاح: إنك لا تدري بمن تولَع، مُرْ لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فقد حبستها عنَّا، وأصبحتَ مولَعاً بذم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومدْحِ المجرمين وتقريضهم؛ فقام معه نحو ثلاثين ألفاً، يقولون: صدق حجر". فهل ترى أصاب حجر في صياحه في المسجد وصراخه أم أخطأ؟.
وهذا الأعمى بصير القلب عبدالله بن عفيف الأزدي، الذي اعترض ابن زياد في مسجد الكوفة وصاح في وجهه لما سمعه يذُمُّ ويسُبُّ الحسينَ وأهلَ بيته عليهم السلام بعد مجزرة كربلاء، فقام "من زاوية المسجد وقال: يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، ومن استعملك وأبوه، يا عدوَّ اللّه .. أتقتل أولاد النبيين وتتكلم بمثل هذا على منابر المسلمين؟ تقتل الذرية الطاهرة وتزعم أنك مسلم؟ ثم صاح: واغوثاه .. أين أولاد المهاجرين والأنصار؟ ألا ينتقمون من اللعين بن اللعين؟. فغضب ابن زياد وأمر بقتله فخلصه أصحابُه، ثم بعث إليه ابن زياد جماعة إلى بيته فقتلوه". وهذا أمر مشهور في مصادر واقعة كربلاء، فهل هناك أحد من العقلاء الأحرار يستهجن صياح الشهيد الأزدي أو يستنكره أو يرى فيه بدعة؟ كلا.
6- نص أهل المذهب (أنه لا يجوز في المساجد إلا الطاعات)، ونحن نزعم أن الشعار من أفضل الطاعات في هذه المرحلة؛ وقد قال الإمام المهدي في البحر الزخار (3/ 393): "وندب اجتماع المسلمين للنظر في مصلحةٍ دينية؛ إذ هو كالعبادة، والتدريس والمناظرة لطلب الحق، لا للجدال"، والصرخة بصوت واحد وفي وقت قصير لا تقِل أهمية عن المناظرة بين شخصين أو فريقين، تختلف فيها الأصوات، وتتداخل العبارات، وتؤدي إلى التشويش على من في المسجد.
فهل بربك أي الأصوات يستسيغها السماع، أهي أصواتُ صرخةٍ منتظِمة وفي وقت قصير لا يتعدّى الدقيقة الواحدة، أم أصواتٌ متداخِلة وتستهلِك الوقتَ الكثير؟!
7- لم يتشدّد فقهاؤنا وهم يعدِّدون صورا منافية للطاعات في المساجد، فحكموا فيها بكونها مكروهة تنزيها، على الرغم أنه ورد فيها أو في بعضِها النهيُ الخاص، بينما تشدّد البعض ضد قولٍ معروف وكلمةِ حقٍّ تعتبَر اليوم من صميم الطاعات وأولاها، فاعتبروها جُرْما خطيرا، فعلى سبيل المثال ورد في شرح الأزهار نقلا عن الانتصار أنه: "يكره في المساجد سلُّ السيوف ونحوُها، ورفعُ الأصوات بغير القراءة والذكر، وكذا كتابة الأشعار في جدرها، وتعليق الخيوط في جدرها وأبوابها". كما ذكروا أنه "يكرَه إنشاد الضالة فيها".
أي أن فقهاءنا حكموا على هذه الصور الشنيعة بالكراهة فقط، لا بالحرمة، بينما حكم البعض بتحريم الصرخة واعتبارها منكرا فظيعا.
8- والصرخة تعبيرٌ عن الإنكار على اليهود والنصارى المعادين للإسلام والمسلمين، وإعلانٌ بالبراءة منهم، والتعبيرُ عن الإنكار وإعلان البراءة يقتضيان الجهرَ بالقول بهما، حيث هو المتاح، في وقتِ اجتماعِ المسلمين الذي هو أفضل وأقوى حالة معبِّرة عن قوتهم وتماسكهم ووحدتهم ضد المعتدين، في وقتٍ هناك بكثرة كاثرة مَنْ يُسارِع إلى تولِّيهم وإلى حسن الظن بهم، والانخداع لهم، وهو أمرٌ مرفوضٌ في الإسلام، فكان لا بد من إظهار البراءة ضدهم، وفي هذه الحالة قد تصل حالة المشروعية إلى حالة الوجوب، وما هذا حاله فإنه يجوز في المسجد كما يجوز في غيره، وبما أن الموقف تعبيرٌ عن موقفِ قوةٍ في وجه المعتدين فإنه لا بد أن يكون مجهورا به؛ إذ لا يصح التعبير بالهمس والإخفات ولا بالأصوات المتماوتة التي تُظْهِرُ أصحابَها ضعفاءَ وغيرَ جادِّين في ما يعبِّرون به وعنه.
9- ونعتقد أن أمريكا بمشاريعها التدميرية والمناقِضة والمتآمِرة على الإسلام هي أكبرُ مُنكَر وأفظع بدعة يجب إنكارها، وأن مناهضتها فريضة يجب القيام بها، والفرائض من الأمور التي يجب إعلانُها والجهرُ بها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا غُمَّة في فرائض الله).
10- ثم إن معاني كلمات الشعار وبعض ألفاظه موجودة في القرآن الكريم، وما يجوز في القرآن الكريم يجوز مثله في المساجد، سرا وجهرا، والمحاضرة التي تتحدث فيها وأنت محاضرٌ أو خطيبٌ عن أمريكا وإسرائيل وعن العدوان في المسجد، وترفع عقيرتَك بها وبالميكرفون متحمِّسا ومحمّسا يجوز أن تُتْرْجِمَها مع جماعة المسلمين في صورةِ شعارٍ جماعيٍّ منظَّم، تيقّن الجميع اليوم أن العدو الأمريكي والصهيوني يحسِب له ألف حساب، طبعا مع العمل، ولا شك أن القائمين على الصرخة هم من يقود المواجهة العملية ضد الأمريكان وأزلامهم.
11- والآية الكريمة تقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة:120].
وكلمة (موطئا) نكرة في سياق النفي تفيد العموم، الذي يشمل كل مكان يطؤه المسلم وكل مكان يغيظ الكفار، وفي أولويتها المساجد، وكذلك تيقَّن الجميع أن الجهر والصراخ بالشعار في المساجد هو مؤثِّر على العدو تأثيرا كبيرا، وينال منه نيلا عظيما، وهو داخل في عموم كلمة (نيلا) في قوله تعالى: (ولا ينالون من عدو نيلا) وهي النكرة في سياق النفي المفيدة للعموم، ويشمل ذلك الجهر بالشعار في المساجد.
12-وفي المسجد نَجْهَرُ بوضع الخطط التي فيها قتْلُ هؤلاء الأعداء، ومحاربتهم، وهو أمر أبلغ وأفظع من مجرد الهتاف بموتهم الذي يُقْصَد به إيصالُ عددٍ من الرسائل وتربية الأمة على القوة وخلق المعنويات العالية، وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُخطِّط للمعركة فيه، وفيها القتل والقتال، وكان يحرض فيها المؤمنين على القتال، وذلك كله أوقع وأهم من مجرد هتافات ثقافية وتربوية ونفسيه.
13- والصرخة من القول السديد، ويعم القولُ السديدُ كلماتِ الصرخة جهرا وكتابة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70- 71]، وقد مر هذا.
14-وبعد كل هذا الحديث وكل هذا الاستدلال لنفترض أنك أيها المعترض لم تقتنع بمشروعية الجهر بالشعار في المسجد؛ لأنك ترى حرمة المسجد والصلاة تمنعان الجهر به، وأن هذا فقط هو ما منعك، فلم لا تعلنْه صامتا، وذلك بوضعِ مُلصَق على بيتك أو في سيارتك أو على ثيابك، ومن ثم تكون داخلا في أجره وتتجنب الوقوع في محذورِ تركِه؟
الرد على الشبهة الثالثة: بدعية كونه بين الخطبتين وصلاة الجمعة
قال المعترض: "الشارع لم يشرع غير الإقامة بعد الخطبتين، وأن ابتداعَ غير ما شُرِعَ أمرٌ هو في الحقيقة مخالفة للشارع"، والجواب على ذلك من وجوه:
1-أن هذا استدلال ضعيف، ويكفي في ضعفه أنه يجري على طريقة الوهابية في التبديع والتضليل لكل ما لا يجدون فيه نصا مباشرا؛ ولو نصَّ الإسلام عليه إجمالا، فتراهم يُبَدِّعون الاحتفالاتِ بيوم الغدير، والهجرة النبوية، والمولد النبوي الشريف؛ لأنهم يزعمون أنه لم يحتفِل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها بدعة، وبالتالي فهي مخالفة للشارع، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار؛ ولهذا وقعوا في تضليلِ كثيرٍ من الأمور، أو التعامل معها بازدواجية، فيُحَرِّمون الاحتفال بالمولد النبوي، ولكنهم يجيزون الاحتفال بمولدِ دولتهم، أو يومِهم الوطني. وكان الأولى بالزيدي أن يسلُكَ طريقةَ أئمةِ أهل البيت عليهم السلام في الاستدلال.
2-ولأن تركيبَ هذه الدعوى لم يكتمل، وتحمل كثيرا من المغالطات فإنه لا بد من توجيه بعض الأسئلة لصاحبنا المبدِّع والمعترض، فنقول له: قولك: "الشارع لم يشرع غير الإقامة بعد الخطبتين"، أتقصد به أنه لم يشرع أمرا من أعمال يوم الجمعة، أو صلاتِها وخطبتها؟ أم تقصد أنه لم يشرع أيَّ أمر من الأمور الأخرى المتعلقة بالدِّين ولو على سبيل الإجمال؟ فإن قلت لم يشرع شيئا متعلقا بالجمعة، فماذا عن الدعاء الذي يدعو به المقيم قبل الإقامة؟ ألا تعتقد أنه بدعة؟ وماذا عنه ونحن نجد اختلافا في صيغ الدعاء، فأين منها المشروع؟ وأين منها غير المشروع والبدعة؟
وإن قلت: لم يشرع أيَّ أمر من أمور الدين، فماذا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ماذا لو رأى أحد المصلين بعد كمال الخطبة منكَرا فهل عليه أن ينهى عنه؟ فإن قلت: نعم، قلنا: فأين الدليل الذي يدل على النهي عن المنكر في ذلك الوقت؟ وما أجبتَ به فهو جوابُنا. وإن قلت: لا. خالفت المعلوم من الدين ضرورة.
ولنفترِض أن الصرخة في ذلك الوقت وفي تلك الحالة بدعة ومخالفة للشرع كما أوهمتَ في استدلالك؛ فهل هي حرام، أم مكروهٌ على أصولك؟ وهل تصح جمعة مَنْ صرخوا؟ أم لا تصح؟ فإن قلت: لم تَصِح؟ فأخبِرْنا عن ماهية الشرط أو الركن من شروط وأركان صلاة الجمعة الذي اختل وبطل؟ ثم هل كلُّ ما لم يفعلْه السابقون بدعة؟ وإذا كان بدعة فهل هو بدعة حسنة أم سيِّئة؟
وهكذا العناد والتحزب والغلو والتعصب تقرِّب صاحبها من مناهج الغالين والمبطلين، ولا ترى فرقا بينه وبينهم في استدلاله وأقواله.
3- كان الأولى بهذا المبدِّع أن يعرف أن الصارخين بذلك إنما فعلوا ذلك؛ لما يرونه من وجوب إعلان البراءة، وأن ذلك الوقت هو أنسب الأوقات لإعلانها، لما يمثل من مظهرٍ اجتماعي وديني مُشْعِرٍ بالقوة والاتحاد، وإذا كانوا مستعدين للتوجه إلى الله وحده، فمن الأهمية بمكان أن يعلنوا البراءة مما سواه، من الآلهة التي اتخذها كثير من أهل هذا العالم.
وهذا من أوضح الواضحات، وأبين البينات لولا التعلق بالمشاغبة.
الرد على الشبهة الرابعة: خصوصية الشعار
قال المعترض: ""ارتبط الشعار والصرخة بثقافة معينة لشريحة معينة، .. إلخ".
ويجاب عليه بالتالي:
1- بإعادة ما ذكرناه سابقا، من أن المسلمين يُطْلِقون في المساجد شعاراتٍ خاصةً بهم لا يعتقد مشروعيتَها كلُّ المصلين في ذلك المسجد، ومنهم المعترض على الصرخة؛ وعليه فلا يحق منع الصارخين مهما كانوا.
2- إذا كان هناك من يعتقد أن الصرخة شعارٌ خاصٌّ وحصري بأنصار الله فهذه مشكلته لا مشكلة الصارخين بها؛ لأن الشهيد القائد طرح هذا الشعار ليكون لكل المسلمين في مواجهة مشروعِ أمريكا العدائي للإسلام والمسلمين، وقد قال الشهيد القائد في بدايات إطلاقه: إننا هنا من أحزابٍ وتياراتٍ مختلفة نصرخ بهذا الشعار، بهذا اللفظ أو بمعناه، وكان ينتظر حتى من الوهابيين أن يرفعوه، ولما عارضوه استغرب منهم استغرابا شديدا، وهناك من الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية من يصرخون بهذا الشعار وهم لا ينتمون أبدا إلى أنصار الله كمكون.
وهناك فرق بين هذا الشعار الذي يمكن للأمة أن تحمله جميعا، وليس موجَّها ضد أي فصيل منها، وبين الشعارات الخاصة التي يطلقها بعضنا ولا يرتضي ما فيها الفريق الآخر، ومنها تلك الشعارات التي يطلقها المعترضون التي قصد بها مناوأة هذا الشعار، والمشاغبة عليه.
لكن هذا الشعار دلَّتنا الأحداث على أولويته على كثير من الشعارات الأخرى، وكذلك هو كلمة حق يراد به حق، وليس كشعار الخوارج، فإنه كلمة حق يراد به باطل.
3-سلَّمنا جدلا أن هذا الشعار خاصٌّ بأنصار الله، ولكن وبعد أن اتضح لنا أنه أصبح مؤثِّرا في العدو، وينال منه نيلا كبيرا، وقد رأيناهم ينزعجون منه انزعاجا عجيبا، وسمعنا ورأينا نتنياهو ومسؤولين صهاينة ينزعجون منه، ويكرهون الاستمرار فيه، فهل من الحكمة الاستمرارُ بالسكوت عما ينزعج منه اليهود والنصارى المعتدون؟ وهل علينا أن نُسعِد نتنياهو بالسكوت عنه؟ وهل من الإسلام محاربة هذا الشعار المُزعِج لهم؟ لم لا نعود للحق، والعود إليه أحمدُ فضيلةٍ، وننصر هذا الذي اتضحت صوابيته؟
4- وإذا عدنا بالحوار إلى أصلٍ مهم وهو: الاعتقاد بخطورة أمريكا، والتحذير منها، وإعلان البراءة من سلوكاتها وعملائها، فإذا وافق المعترض على هذا الأصل، نسأله: ماهي الأقوال والأفعال والخطوات والبرامج والنشاطات التي يجب أن نعبِّر بها عن هذا الموقف؟ والتي تريد من ورائها أيضا تحقيق مبدأ الولاء والبراء؟ وإعلان موقفك من أمريكا الشيطان الأكبر؟
وعليه فلا بد أن يكون له موقف فعلي أو قولي؛ لأنه لا يكفي الموقف القلبي، وهو قادر على الموقف الجوارحي، والموقف اللساني، فإذا قال: إنه لا يفعل شيئا، فهذا في أقل أحواله يوهِم أنه لا مشكلة لديه مع أمريكا، وإن قال: لا بل أقاطع بضائعهم، ومنتجاتهم، وأخطب محذِّرا من كيدهم ومكرهم، وأبني وعيا في عقول العامة عن خطورتهم، وأنخرط في مشاريع عملية تقوِّي أمر هذه الأمة في مواجهتهم، قلنا: هذا أمرٌ طيب، قد حققْتَ ما يجبُ عليك، ولكن عليك أن لا تصدَّ ولا تمنعَ من يلتقي معك في هذه المشاريع ويخدم هدفك بنشاطات أخرى، فإذا كنت تعلم أنك ستصنع سلاحا بريا مثلا لمواجهتهم، فهل يجوز لك أن تمنع مَنْ يريدُ إنتاجَ سلاحٍ جويٍّ لمواجهتهم؟
5-وإذا كان امتناع المعترض عن ترديد الشعار إنما لأجل كونه ينتمي إلى جماعة أخرى، أو إلى حزب آخر، كما يُفْهَم من كلامه الأخير، مع أن الشعار كلمة حق، ويراد به حق، وقد عاين المعترِض بعينه ذلك، وأثبتت له ولغيره الأيام أحقيته، فإن تركه لأجل توجيهات الحزب أو الجماعة فإن ذلك هو عين التعصُّب الحزبي الذي حذر منه الإسلام؛ حيث نهى الله عن الحزبية والتعصب، وحذر من الفرقة في الدين، حيث يقول الله تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 32]، فرحا يمنعهم من قبول الحق من غيرهم، وهذا خطأ، أما حين يسعى المعترِض للصدِّ عن هذا الحق ولمنعه من منطلقاتِ حزبية وفئوية فإن ذلك يعتبَرُ أشنعَ وأفظع.
أما إذا كان الحق مذهبك وإن أتى من غير حزبك، فذلك هو الإسلام، والله يقول: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، والصراخ بالشعار من البر والتقوى الذي يُشرَع التعاونُ فيه، والصد عن الشعار وقد رأيناه نافعا مؤثِّرا على أعداء الله، يعتَبَر من الإثم، ومن العدوان الذي نهى الله عنه.
6-وبما أنك أيها المعترض ترى أن هذا الشعار أصبح علَما وعنوانا لشريحة معينة، وهي الشريحة التي تقود معركة المواجهة مع أعداء الله اليوم، فلماذا تريد منعهم من ممارسة ثقافتهم، ورمزيتهم، وعَلَمهم بحجة أنهم قليل في هذه المنطقة، أو أن هذا المسجد في ولاية فلان، أو تحت إمامة علان، وأنت تعرف أن المساجد لا تُمْلَكُ، وهي كلها لله تعالى، أليس ذلك من الباطل؟
أما وهم يعتقدون أن هذا الشعار والصراخ به واجب، فهل يحق لك أن تمنع مسلما أي مسلم من ممارسة ما يعتقدُه واجبًا متحتِّما عليه، لا أرى ذلك إلا خطأ، لا سيما وأنت من أهل نظرية (كل مجتهد مصيب)، التي تحترِم اجتهادات الآخَرين في الفروع والعمليات.
وكما لا يحق لك منعُ شافعي صلَّى في المسجد ولم يغتسل من منيِّه بحجة أنه طاهر في مذهبه، بينما هو نجس في مذهبك، فإنه لا يحق لك منعُ مكبِّر أن يهتِفَ بشعاره ضد عدوِّك وعدوه أمريكا وإسرائيل؛ لأنه يراه مشروعا، بل وواجبا.
أما إذا كانت الصرخة جزءا من أساليب المواجهة للعدو، والحرب النفسية ضده، كما يعتقد قادة المواجهة اليوم، والذين تتدين باتباع أوامرهم وتوجيهاتهم، أو كما هو الواقع، ففي أقل الأحوال أن ما يلزمك هو أن لا تعترضهم في ذلك، وقد عرفت أن كل ما تعلقت به من شبه لا ترقى إلى مستوى المعارضة، التي تقتضي التفرق والاختلاف، اللذين نهى الشارع الحكيم دائما عنهما.
7-لا يجوز لمؤمن أن يمنع أو يصُد بقولٍ أو فعلٍ عن أيِّ عمل إلا إذا كان منكَرا قطعيا، علم قطعا أنه منكَر، وأنه مما لم يختلف في حرمته العلماء، وعليه فإن المانع للصارِخ والصادِّ عن الصرخة مخطئٌ مخالفٌ لما هو مؤمِنٌ به ولما هو معتقد وجوبَه عليه، وللقواعد والمبادئ التي يؤمن بها.
الخاتمة ؟
وهكذا يتبين من خلال هذا النقاش المستفيض ما يكفي لأن يصرُخَ المسلمُ بهذه الصرخة، وأن يحكُم بمشروعيتها، في أوقات الاجتماعات، وفي المساجد، وبين خطبتي الجمعة وصلاتها، وأنه لا يجوزُ لإنسانٍ مسلم أن يصُدَّ عنها أو ينكرها تحت أيِّ مبرِّرٍ من المبرِّرات، وبأيِّ وجهٍ من الوجوه، ولا أجمل من كلام السيد القائد حفظه الله عندما قال: لم نجبِر أحدا على الصراخ بالشعار، وكذلك لن نسمحَ لأحدٍ بأن يمنعَنا من الصراخ به، أو كمال قال رضوان الله عليه.
وفقنا الله والمعترضين، وسدّد الله المؤمنين، ونصر المجاهدين، وهزم المعتدين، وهدانا إلى رضوانه، وكتب مستقرنا في جنانه، ونجانا من نيرانه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.