عندما وصل الإمام زيد (عليه السلام) إلى الشام وبالتحديد في عاصمة الدولة الأموية دمشق تجاهله هشام لأكثر من شهر؛ لكن زيداً في غضون هذا الشهر فرض نفسه على دمشق، وأصبح محور الحديث في مجالس الشام عموماً، وقبلة الزائرين لمجاميع من الناس، أعجبوا بعلمه وسماحته، وشجاعته في كل ما يطرح، وأقل ما يقال أنه لفت أنظارهم إلى الحق، وصحح الكثير من المفاهيم، وأبان الكثير من الحقائق التي حاول الأمويون إخفائها زمناً طويلاً.
أُدخل الإمام زيد(عليه السلام) إلى هشام بن عبدالملك ثلاث مرات وكان كل مرة يلقن هشاماً درساً قاسياً عندما كان ينطق بالحق في مجلس هشام، ولا يخشى في الله لومة لائم، ممتثلاً قول رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله: «أفضل الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر».
الدخول الاول
دخل الإمام زيد على هشام بن عبد الملك فتجاهله هشام فانبرى الإمام زيد قائلاً:
السلام عليك أيها الأحول وإنك لجدير بهذا الاسم.
فاستشاط هشام غضبا وقال: أنت زيد المؤمل للخلافة، وما أنت وذاك وأنت ابن أمَةٍ.
قال زيد(عليه السلام): «إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن بلوغ الغايات ولا أعرف أحدا أحب عند الله من نبي بعثه وهو ابن أمة وهو إسماعيل بن إبراهيم والنبوة أعظم عند الله من الخلافة ثم لم يمنع ذلك أن جعله الله تعالى أبا للعرب وأبا لخير النبيين محمد(صلوات الله عليه وعلى آله) فلو كانت الأمهات تقصر عن بلوغ الغايات لم يبعثه الله نبياً وما تقصيرك برجل جده رسول الله وأبوه علي بن أبي طالب».
فلما خرج زيد قال هشام لجلسائه: ألستم زعمتم أن أهل هذا البيت قد انقرضوا لا لعمر الله ما انقرض قوم هذا خلفهم.
الدخول الثاني
واستدعاه هشام مرة ثانية؛ فجاء وفي مجلسه يهودي يسب رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) فانتهره زيد (عليه السلام) وقال: يا كافر أما والله لئن تمكنت منك لأختطفن روحك.
فقال هشام: مهٍ يا زيد لا تؤذي جليسنا.
فخرج زيد(عليه السلام) وهو يقول: «من استشعر حب البقاء استدثر الذل إلى الفناء».
وقال: «والله إني لأعلم بأنه ما أحب الحياة قط أحد إلا ذل».
الدخول الثالث
دخل عليه مرة ثالثة وقد سمع بأن هشام بن عبد الملك قد أعلن على رؤوس الملأ في يوم حج وأقسم أن لا يأمره أحد بتقوى الله إلا ويقطعن رأسه فلما دخل عليه الإمام زيد قال له: اتق الله، يا هشام! فقال: أو مثلك يأمرني بتقوى الله؟ فقال: نعم! إن الله لم يرفع أحدا فوق أن يؤمر بتقوى الله ولم يضع أحدا دون أن يأمر بتقوى الله.
فقال هشام هذا تحقيق لما رفع إلي عنك ومن أمرك أن تضع نفسك في غير موضعها وتراها فوق مكانها؟ فترفع على نفسك واعرف قدرك ولا تشاور سلطانك ولا تخالف إمامك.
فقال الإمام زيد: «من وضع نفسه في غير موضعها أثم بربه ومن رفع نفسه عن مكانها خسر نفسه ومن لم يعرف قدره ضل عن سبيل ربه ومن شاور سلطانه وخالف إمامه هلك. أفتدري يا هشام من ذلك؟ ذلك من عصى ربه وتكبر على خالقه وتسمى باسم ليس له وأما الذي أمرك بتقوى الله فقد أدى إلى الله النصيحة فيك ودلك على رشدك».
فوثب هشام من مجلسه وقام قائلاً: أخرجوه من مجلسي ولا يبيتن في معسكري.
فخرج زيد وهو يقول: «سأخرج ولن تجدني والله إلا حيث تكره».
وخرج وهو يقول: والله ما كره قوم قط حر السيوف إلا ذلوا.
هذه المواقف تحمل دلالة واضحة على مدى ثقته بالله، وإجلاله لله، وارتباطه بالله سبحانه وتعالى، واحتقاره للطغاة والمتجبرين المنحرفين عن منهج الله سبحانه وتعالى، لقد بلغ الحال في مرحلة ذلك الطاغية المجرم، المستبد، المستحكم والمتحكم على الأمه بكلها، ذلك الطاغية الجائر الذي قال: والله لو قال لي أحد: اتقِ الله لضربت عنقه.
فلم يخف ولم يرهب منه ولم يتهرب من تقديم مثل هذا الأمر والنصح: اتق الله يا هشام.